اسمي كريم أرموتيديس، مسئول الدعوة والمناصرة ونائب مدير الجبهة المصرية لحقوق الإنسان
في البداية أريد أن أعرب عن سعادتي لكوني هنا اليوم، معكم، لمناقشة أحد المواضيع الشائكة والهامة، وهو حول وضع عقوبة الإعدام في مصر، وتصاعد أحكام الإعدام الجماعية بعد يوليو 2013، خاصة في القضايا ذات الطابع السياسي، والتى تعرض المتهمون فيها لانتهاكات جسيمة أخلت بحقهم في محاكمة عادلة ومنصفة، وهو الشرط الواجب توفره في القضايا التي يتم الحكم فيها بالإعدام، وإلا تصبح أحد أشكال ” الإعدامات التعسفية”، وفقًا لتعليق 9 من خبراء الأمم المتحدة حول الإعدامات الأخيرة في مصر في بيان صادر منهم يوم 25 فبراير 2019، بعد إعدام السلطات المصرية 9 أشخاص لاتهامهم بقتل النائب العام المصري عام 2015.
وقد شهدت المحاكم المصرية بعد يوليو 2013 طفرة في إصدار وتأييد أحكام الإعدام على عدد من معارضي النظام، والتى لم تغب عنها شبهة التسييس، وذلك بعد محاكمات موجزة لم تراع أبسط ضمانات المحاكمة العادلة. ولعلنا نذكر أحكام إرسال أوراق 638 شخص في قضية أحداث(العدوة)، و 528 شخص في قضية أحداث (مطاى) للمفتي لاستطلاع الرأي الشرعي في إعدامهم، بعد محاكمة لم تُكمل الساعة، ولم يتم الاستماع فيها للشهود، أو تمكين المحامين من تقديم مذكرات دفاعهم، في استهانة واضحة لأبسط مبادئ العدالة وهو الحق في الدفاع.
ولم يقتصر الأمر على إصدار أحكام الإعدام، فمنذ 2013 تسارعت وتيرة تنفيذ أحكام الإعدام في هذه القضايا بإعدام السلطات المصرية 47 شخص، في قضايا أغلبها عسكرية، وتم تسريع تنفيذ الحكم علي بعضهم ردًا على هجمات إرهابية، فيما يمكن وصفه انتقامًا أو امتدادًا لحرب النظام على الإرهاب. ومن ناحية أخري ينتظر 48 شخص تنفيذ أحكام الإعدام عليهم صباح كل يوم بعد استنفاذ كافة درجات التقاضي، ناهيك عن عشرات الأحكام المحكوم فيها والمؤيد فيها والمنفذ فيها أحكام الإعدام في القضايا الجنائية.
في حديثي هذا، سأحاول التركيز على شقين رئيسيين، الأول: حول وضع عقوبة الإعدام في التشريع المصري، والثاني: حول انتهاكات ضمانات المحاكمة العادلة في القضايا ذات الطابع السياسي منذ يوليو 2013.
بالرغم من الاتجاه العالمي لإلغاء أو تجميد العمل بعقوبة الإعدام، والتوصيات الموجهة لمصر في الاستعراض الدوري الشامل عام 2014 بضرورة التوقف عن تطبيق عقوبة الإعدام، باعتبارها عقوبة تنتهك الحق في الحياة، إلا أن مصر ما تزال مستمرة في الحكم بعقوبة الإعدام كعقوبة لــ 108 جريمة مثل: التجسس والقتل العمد والخطف والاتجار في المخدرات، والمنصوص عليها في 78 مادة موزعة على التشريعات والقوانين المصرية المختلفة.حيث ما زال المشرع المصري يرى بأن عقوبة الإعدام تحقق الردع المجتمعي، وهو ما يخالفه استمرار وتصاعد ارتكاب الجرائم المعاقب عليها بالإعدام، والذي يقابله من الناحية الأخري تصاعد في أحكام الإعدام وزيادة تشريع المواد التي تحكم بالإعدام. أبرز مثال على هذا التصاعد، إصدار المحاكم المصرية عام 2018 أحكام إعدام بحق 737 شخص بالمقارنة بـ 402 شخص في 2017 أغلبهم متهمين في جرائم جنائية محضة، الأمر الذي يثير تساؤلات جادة حول جدوى تحقيق عقوبة الإعدام هدفها في الردع المطلوب وإيقاف تلك الجرائم، فضلًا عن اعتبار هذه العقوبة اعتداءًا على الحق في الحياة.
يزداد الوضع سوءًا في القضايا المحكوم فيها بالإعدام، والتى يغلب عليها الطابع السياسي في مصر؛ فأغلب المتهمين، وخلال مسار القضية بالكامل، يتعرضون لانتهاكات جسيمة تخل بحقهم الطبيعي في الحصول على محاكمة عادلة، بالمخالفة للقانون والدستور والمواثيق الدولية. فمن أصل 47 شخص منفذ فيهم حكم الإعدام بعد يوليو 2013 في هذه القضايا، أصدرت المحاكم العسكرية أحكام بإعدام 30 شخص مدني منهم، وصدر الحكم من قبل قضاة عسكريين يقوم وزير الدفاع بتعيينهم، وذلك استنادًا لقرار رئيس الجمهورية رقم 136 لسنة 2014. في حين تُصدر ما تُسمي بـ” دوائر الإرهاب” أغلب أحكام الإعدام في القضايا المدنية، وهي دوائر شكلتها السلطة التنفيذية في ديسمبر 2013 ويرأسها قضاة معروفين بتوجاتهم السياسية، والتي لا يخجلون في إظهارها في وسائل الإعلام وفي قاعات المحاكم وحتى في متن الأحكام. الأمر الذي أضر بشدة بسمعة القضاء المصري وأصبحت جمل مثل “القضاء الشامخ” أو “لا تعقيب على أحكام القضاء” مثار للسخرية، وذلك بعد تحول القضاء لأداة يقنن النظام بها بطشه بمعارضيه.
ومن ناحية أخري، امتدت يد التسييس لتطال التشريعات التي تحمي حقوق المتهمين في الحصول على محاكمة عادلة تحت شعار العدالة الناجزة. فعقب تصريح الرئيس السيسي في 30 يونيو 2015 بأن “يد العدالة الناجزة مغلولة بالقوانين، وأنه سيقوم بتعديل القوانين لتنفيذ العدالة في أسرع وقت ممكن”، صدرت دفعة من التعديلات في القوانين المتعلقة بمسار تقاضي المتهمين.حيث أصدر السيسي في أغسطس 2015 قانون مكافحة الإرهاب والذي تضمن 11 مادة جديدة تعاقب بالإعدام، كما تم تعديل قانون الإجراءات الجنائية في أبريل 2017 والذي ألغي إمكانية إعادة محاكمة متهم أمام دائرة أخري، كما أعطت تلك التعديلات للمحكمة حق اختيار عدد الشهود التي تريد السماع إليهم. ليس هذا فحسب، ففي شهر أبريل نفسه تم تعديل قانون الهيئات القضائية والذي جعل تعيين رئيس محكمة النقض ( أعلى محكمة في البلاد) بيد رئيس الجمهورية، بعد أن كانت عملية اختياره تتم بشكل قضائي. جدير بالذكر بأنه تم تعيين رئيس محكمة النقض الجديد في يونيو 2017 بعد أقل من شهر من تأييده الحكم في إعدام 6 أشخاص لاتهامهم في قتل شرطي بالمنصورة لدوافع سياسية.
أما بالنسبة للانتهاكات التي يتعرض لها المتهمون في القضايا المحكوم فيها بالإعدام، فمن واقع تحليل أقوال المتهمين في تحقيقات النيابة ومحاضر جلسات المحكمة ومذكرات الدفاع، فقد تعرض أغلب المتهمين في هذه القضايا لانتهاكات جسيمة أخلت بحقوقهم، أبرزها الإخلال بحقهم في التواصل مع العالم الخارجي بعد القبض عليهم وحقهم في عدم التعذيب والمعاملة الإنسانية، وحقهم في الدفاع.
تبدأ الانتهاكات التي يتعرض لها المتهمين منذ لحظة القبض عليهم، حيث يتم إخفائهم قسريًا، لمدد تصل لأسابيع، وفي أماكن احتجاز تابعة لجهاز الأمن الوطني أو السجون العسكرية مثل سجن العازولي، وتكشف الأوراق ادعائات الإخفاء القسري بالمقارنة بين تاريخ الضبط الرسمي، وتاريخ واقعة القبض وفقًا للتلغرافات المقدمة من أهالى المتهمين أو إدعاءاتهم أثناء التحقيق معهم. كما تظهر أوراق التحقيقات أيضًا، تعرض المتهمين للإكراه المادي والمعنوي للإدلاء باعترافات حول الوقائع المنسوبة إليهم، فيتعرضون للضرب والتعليق من الأيدي والصعق بالكهرباء والتهديد بإيذاء الأهل، وهي الإدعاءات التي لا تقوم النيابة تجاهها بأي إجراء بهدف التأكد من صحتها، بالرغم من نص الدستور على أن أى اعترافات صادرة تحت الإكراه لا يعول عليها.
جانب آخر تكشفه أوراق التحقيقات في هذه القضايا، وهو غياب المحامين عن أغلب جلسات التحقيق الأولي، والتى يكون فيها أغلب اعترافات المتهمين، وذلك تحت مبررات مثل: “عدم وجود محامين”،”وجود حالة الضرورة”، “خشية ضياع الأدلة”، ما يعد إخلالًا فجًا بحق المتهمين الأصيل في الدفاع.كما تقوم النيابة بتجاهل أو مماطلة إحالة عدد كبير من المتهمين للطب الشرعي للتأكد من تعرضهم للتعذيب والتعرف على آثار الإصابات على أجسادهم. نوع آخر من الانتهاك تظهره الأوراق، وهو تعرض عدد كبير من هؤلاء المتهمين حال ترحيلهم للسجون لانتهاكات مثل: الإهمال الطبي، تكدس الزنازين، سوء التغذية، المنع من التريض والزيارة، وغيرها من الانتهاكات المتعلقة بأوضاع السجون، والتي نادرًا ما تتفاعل معها النيابة أو المحكمة أو تعمل على تحسين هذه الأوضاع، وهو ما يلقي بظلال من الشك حول حياد واستقلالية جهة التحقيق أو المحاكمة.
وتعد القضية رقم 1300 لسنة 2016 كلي شرق القاهرة والمعروفة إعلاميًا “قضية إغتيال النائب العام”، والمنفذ فيها حكم الإعدام على 9 أشخاص، فى فبراير السابق، مثالًا صارخًا على الانتهاكات التي يتعرض لها المتهمون في هذه القضايا. فمن أصل 52 متهمًا محبوسين على ذمة القضية تعرض 40 شخص للإخفاء القسري، لمدد تفاوتت بين 10 – 120 يوم، في مقرات تابعة لجهاز الأمن الوطني.وكانت النيابة قد بدأت التحقيق مع 29 متهم منهم في غياب محام. ووفقًا لأقوال المتهمين في النيابة فقد تعرض 38 متهمًا لأشكال متنوعة من التعذيب البدني والنفسي للإجبار على الإدلاء باعترافات، منهم 8 قامت النيابة بإثبات رؤيتها لآثار التعذيب على أجسادهم، ورغم ذلك قامت بإحالة 14 شخص فقط منهم للطب الشرعي لإثبات آثار إصابتهم.
كما تم تصوير اعترافات 4 من المتهمين، ونشرها أثناء سير التحقيقات، بالمخالفة لمبدأ أن المتهم برىء حتى تثبت إدانته. ليس هذا فحسب، فعند تحقيق النيابة مع الضابط المسئول عن إجراء التحريات في القضية وسؤاله عن مصدر معلوماته في القضية اكتفى الضابط بقوله بأنها ” من مصادر سرية يخشى التصريح بأسمائهم حفاظًا عليهم”. جدير بالذكر بأن تنفيذ الحكم تم دون الفصل في الالتماس المقدم من محامي المتهمين للنائب العام، بالمخالفة لقانون الإجراءات الجنائية، وهو ما يضاف لجملة الانتهاكات في القضية والتي أخلت بمبدأ ضرورة توافر أقصى معايير المحاكمة العادلة في القضايا التي يتم الحكم فيها بالإعدام، وذلك بالرغم من كون هذا المبدأ هو التوصية الوحيدة التي أيدتها مصر فيما يتعلق بعقوبة الإعدام في الاستعراض الدوري الشامل في 2014، والتى تكررت في التوصيات الصادرة في بيانات المقررين الخواص وخبراء الأمم المتحدة والمفوضة السامية لحقوق الإنسان وقرارات البرلمان الأوروبي خلال الأعوام السابقة.
في النهاية، نؤكد على موقفنا المبدئي الرافض لعقوبة الإعدام، في جميع القضايا الجنائية والسياسية، خاصة أنها عقوبة لا يمكن التراجع فيها حال ثبوت بناءها على أخطاء، بالإضافة لأنها لم تحقق في أى وقت هدف الردع ولم توقف الجرائم المعاقب بها بالإعدام. ويزيد موقفنا صلابة تجاه مطالبة الحكومة المصرية بإيقاف أو إلغاء عقوبة الإعدام في الوقت الحالي هو كم المخالفات والانتهاكات الجسيمة الموثقة التي يتعرض لها المتهمون المحكوم عليهم في هذه القضايا، والتى تخل بحقهم في الحصول على محاكمة عادلة، الأمر الذي يجعل من أحكام الإعدام الصادرة بحقهم، ولو كانت متوافقة مع القانون، أحكامًا تعسفية، يجب إعادة المحاكمة فيها فورًا، وفتح تحقيقات مستقلة حول الانتهاكات التي تعرض لها المتهمين خلال إجراءات التقاضي ومحاسبة المتورطين عن هذه الانتهاكات.
ونطالب الحكومة المصرية بالتوقف عن تسييس القضاء وانتهاك حقوق المتهمين تحت شعار العدالة الناجزة والتوقف عن استخدام الإعدام كوسيلة من وسائل الحرب على الإرهاب، والعمل على حل جذور المشاكل الاجتماعية والسياسية المؤدية للجرائم، والالتزام بحقوق المتهمين المكفولة بالمواثيق والعهود الدولية وحتى الدستور المصري، والعمل على تعزيز سيادة القانون بدلًا من انتهاكه بشكل مستمر.