مقدمة:
كان ارتباط تجاوز القضاء العسكري لاختصاصاته واستهداف المدنيين كنمط من القضاء والعقوبات الاستثنائية للمدنيين مرتبطا بلحظات تاريخية استثنائية كما في عام 1954 فيما عُرف بقضية محاولة اغتيال رئيس الجمهورية حينها جمال عبد الناصر، والتي شهدت محاكمات عسكرية واسعة لأعضاء تنظيم الإخوان المسلمين، وقد لحق بهم في العقد التالي -الستينيات- طيف آخر من المدنيين السياسيين مثل الشيوعيين واليسار المصري. شهد عهد مبارك تفعيلا لهذه الممارسة بالتبعية إزاء بعض خصومه السياسيين من الإخوان المسلمين، والجماعات الإسلامية أثناء التسعينيات؛ لكن بشكل إجمالي بقى تدخل القضاء العسكري في معترك الحياة المدنية وبخاصة على خلفية الحياة السياسية ومتغيراتها أمرا في غاية المحدودية حينها. وفي أعقاب ثورة يناير 2011، عاد القضاء العسكري للنقاشات العامة مع تولي المجلس العسكري لإدارة البلاد ومهام التأمين والدفاع، وقيامه بإصدار العديد من القرارات بقوانين، والقبض على مواطنين كُثر، ليتنامى هذا الاتجاه منذ ذلك الوقت حتى تاريخه مع ميل أكثر نظامية ومؤسسية وتقنينا.
يهدف هذا التعليق للتركيز على ظاهرة تقاضي المدنيين أمام القضاء العسكري كظاهرة استثنائية آخذة في التوسع والاستقرار في النظام القانوني المصري بالخلاف لطبيعة التقاضي العسكري والذي يتعامل مع فئة متخصصة بعينها، وبما يخالف القواعد الحقوقية القانونية الدولية والمحلية المستقرة حول حق المدنيين في المحاكمة أمام القضاء الطبيعي، وما يتبع هذا الانتهاك القانوني من تطبيق للعقوبة في مقرات إنفاذ عسكرية استثنائية بالمثل، يُعاني المحتجزون المدنيون فيها من انتهاكات أخرى تُصّعبْ من استثنائية الوضع الذي يمرون به.
يقوم التعليق على فحص النصوص القانونية المستحدثة لتقنين وتطبيع التقاضي العسكري وشمول المدنيين به خلال السنوات الأخيرة، وكذلك الشهادات الواردة حول الانتهاكات الموجهة ضد المدنيين في مقرات الإنفاذ العقابي التابعة للقضاء العسكري، وكذلك التصريحات الرسمية الصادرة من الأطراف ذات الصلة بهذا الملف. وترجع محدودية المصادر في هذا التقرير لطبيعة الموضوع شديدة الحساسية وما يصاحبها من تعتيم كبير، وصعوبة الوصول لمعلومات أكثر دقة وتحديثا سواء من جانب الجهات الرسمية على الصعيد المعلوماتي والقانوني واللائحي، وكذلك على صعيد أصحاب المصلحة والمتضررين من الضحايا وذويهم وهيئات الدفاع، وربما المنظمات المدافعة عنهم.
أولا: قانونية تقاضي المدنيين أمام المحاكم العسكرية
تقليدا ينظم القانون رقم 125 لسنة 1966 المعروف بقانون القضاء العسكري منظومة التقاضي العسكري، والحالات والفئات التي يمتد لها القضاء العسكري بالتطبيق. فبرغم أن القانون في مواده الأولى قد جعل العسكريين من الضباط بالأساس من المخاطبين بالقضاء العسكريين، والجرائم العسكرية، والمنشآت والمرافق العسكرية هي الاختصاصات التي تقع في نطاق هذا التقاضي، فقد نصت المادة 108 من قانون الأحكام العسكرية رَقَم 25 لسنة 1966 علي أن:
“يكون تنفيذ العقوبات السالبة للحرية الصادرة على العسكريين في السجون العسكرية إلا إذا جردوا من صفتهم العسكرية فيجوب نقلهم إلى السجون المدنية. أما بالنسبة للمدنيين فتنفذ عقوبتهم في السجون المدنية.”
وبرغم ما تكشف عنه هذه المادة من اعتراف بمحدودية القضاء العسكري على الصعيد الفئوي والنوعي؛ إلا أن المادة 6 من القانون قد صكت الاستثناء والثغرة التي تُبيح توسع القضاء العسكري لاحقا، حيث جاء نص المادة مفيدا بإمكانية إحالة تجاوز القضاء العسكرى لاختصاصه النوعي، وبالمثل الفئوي، والتعرض لجمهور المدنيين إذا ما دعت الحاجة من خلال النص على أن:
“مع مراعاة أحكام المادة السابقة، تسري أحكام هذا القانون على الجرائم المنصوص عليها في الباب الأول والثاني من الكتاب الثاني من قانون العقوبات العام، التي تحال إلى القضاء العسكري بقرار من رئيس الجمهورية”.
وهي تشمل طيف واسع من الجرائم واسعة التفسير والتأويل -بعضها سيء السمعة- كالتهم الدراجة تحت بنود السلم والأمن العام. لكن بشكل إجمالي، لم يكن القضاء العسكرى أو تلاقيه مع المدنيين محل تناول أو معالجة على صعيد أبعد من هذه القوانين المتخصصة، على النحو الذي يكشفه على سبيل المثال متابعة وفحص دستور 1971.
شهد القضاء العسكري نقلة جديدة في أعقاب ثورة يناير، وبالتبعية السجون العسكرية على عدة أصعدة، سواء بفعل استحداث أطر قانونية جديدة، أو استثمار قواعد قائمة بالفعل. فمع تولي المجلس العسكري للحكم فقد حُوكم ما قارب في بعض التقديرات من 11879 مدني أمام المحاكم العسكرية، تم إدانة 8071 مدني منهم، وقد نشطت على أثر هذا التوسع الاستثنائي والتعسفي للقضاء العسكري في ملاحقة المدنيين مجموعات مثل “لا للمحاكمات العسكرية” بغية التعريف بهذه القضية، وتشكيل ضغط حولها لإيقاف هذه الانتهاكات التعسفية وغير المستحقة بحق المدنيين. وقد شغلت هذه القضية بالمثل حيزا من الحملات الانتخابية لعدد من المرشحين الرئاسيين في ٢٠١٢، لما مثلته من ناقوس خطر منذرا بما قد تُقبل عليه منظومة العدالة في مصر في حال تٌركت هذه الآلية دون مراجعة أو توقف، حيث وعد عدد من المرشحين، كما في حالة الرئيس الراحل محمد مرسي -مرشح جماعة الإخوان المسلمين حينها- بإلغاء المحاكمات العسكرية للمدنيين، والإفراج عن المقبوض عليهم بالفعل، وإعادة محاكمة المحكوم عليهم بالفعل أمام قاضيهم الطبيعي.
بيد أن توازنات القوى قد انتهت في مسار مغاير، انتهى لاستمرار المحاكمات العسكرية للمدنيين بالأمر الواقع، وقد أخذت الأمور منحى أكثر دقة مع أحداث يونيو ٢٠١٣ وما تبعها من تنامي السلطة العسكرية في البلاد، والتي صاحبها انطلاق ما عُرف بالحرب على الإرهاب، والقضاء على العمل المدني والسياسي والأهلي، والتي دفعت جميعها في تنامي أعداد المٌدانين والمحاكَمين أمام القضاء العسكري، وبالتبعية القابعين في السجون العسكرية. فوفقًا لتقرير صادر عن منظمة العفو الدولية في ٢٠١٤ فإنه مقدر وجود حوالي ٤٠٠ مدني معتقل في سجن العازولي العسكري وحده، والذي يٌرجح زيادتهم الآن بعد مرور عشر سنوات على هذا التقرير. فعلى الصعيد الكلي، بدأ التطور الأبرز في هذا المسار، مع ما نص عليه دستور 2012 صراحة في مادته 198، والتي تضمنت بندا يفيد بـ:
“ولا يجوز محاكمة مدني أمام القضاء العسكري إلا في الجرائم التي تضر بالقوات المسلحة؛ ويحدد القانون تلك الجرائم، ويبين اختصاصات القضاء العسكري الأخرى.”وهي المعالجة المباشرة الأولى على المستوى الدستوري المصري للقضاء العسكري، كبند ومحور فرعي تحت قسم القوات المسلحة المصرية، وكذلك في علاقته بالمدنيين، وتقنينها دستوريا على هذا الصعيد. وقد تابع على ذلك دستور 2014 في مادته 204 المعدلة، والتي فصلت في طبيعة القضايا والموضوعات التي يحق للقضاء العسكري مقاضاة المدنيين أمام باحتها بسببها، حيث جاء النص على النحو التالي:
“….ولا يجوز محاكمة مدنى أمام القضاء العسكري، إلا في الجرائم التي تمثل اعتداء على المنشآت العسكرية أو معسكرات القوات المسلحة أو ما في حكمها أو المنشآت التي تتولى حمايتها، أو المناطق العسكرية أو الحدودية المقررة كذلك، أو معداتها أو مركباتها، أو أسلحتها أو ذخائرها، أو وثائقها، أو أسرارها العسكرية أو أموالها العامة أو المصانع الحربية، أو الجرائم المتعلقة بالتجنيد، أو الجرائم التي تمثل اعتداء مباشرا على ضباطها أو أفرادها بسبب تأدية أعمال وظائفهم. ويحدد القانون تلك الجرائم، ويبين اختصاصات القضاء العسكرى الأخرى، وأعضاء القضاء العسكري مستقلون غير قابلين للعزل، وتكون لهم كافة الضمانات والحقوق والواجبات المقررة لأعضاء السلطة القضائية.”
تزداد خطورة هذا النص في التطورات القانونية والسياسية اللاحقة التي أعطت تجسيدا حيا لما يمكن أن تشمله هذه المنشآت أو المرافق العسكرية، على النحو الذي بينه القانون رقم 136 لسنة 2014، والتي نص في مادته الثانية على اعتبار المنشآت التي تُساهم القوات المسلحة في تأمينها من “طرق وكبارى، وغيرها من المنشآت والمرافق والممتلكات العامة وما يدخل في حكمها، وتعد هذه المنشآت في حكم المنشآت العسكرية طوال فترة التأمين والحماية.” وقد استمر العمل بهذا القانون لمدة عامين فقط، وهو النص الذي تزامن مع الشهادات التي أفادت تولى عدد من الضباط العسكريين إدارة شؤون السجناء المدنيين المقبوض عليهم في سجن أبو زعبل العسكري في الفترة من 2014-2015،وهي الفترة -من عام 2014 إلى 2016- التي سجل عدد المدنيين المحاكمين فيها أمام المحاكم العسكرية 7000 حالة. وقد أثار هذا القانون بالفعل إشكاليات وجدلا بالفعل على خلفية ما صرح به حينها رئيس هيئة القضاء العسكري مبررا هذا القانون في أحد المقابلات الإعلامية، بأن “جميع المؤسسات التابعة للقوات المسلحة يسري عليها القانون العسكري، بما فيها محطات البنزين التابعة للجيش، وغيرها من المشروعات الاقتصادية حيث أن العاملين فيها من المجندين ولا يقلون فيه عن غيرهم من العاملين في الأسلحة الأخرى.. وقد تواردت وقائع عن حالات لمدنيين بالفعل واجهت محاكمات وأحكام عسكرية بسبب مشاجرات حدثت في أحد محطات البنزين، وعمال في شركات عسكرية، وصحفيين في شمال سيناء.
وقد لحق بقانون تأمين المنشآت الحيوية تعديلا آخرا في أكتوبر 2021، على نحو جعل من مهام التأمين والحماية لذات المنشآت والمرافق عاما دون توقيت محدد بخلاف النص القديم “مدة عامين”، مع استمرار خضوع أي جرائم في هذا الصدد للقضاء العسكري. تبدو إشكالية هذا النص الجاري والمستمر في ظل توسع الأنشطة الاقتصادية للقوات المسلحة، وتولى الأجهزة التابعة لها مهام الإنشاء والإدارة للعديد من المرافق ومنشآت البنية التحتية والحيوية في مصر، وامتلاكها والانتفاع بها حاليا، وما يعني من شأن هذا النص أن يبقى مفعلا إلى أجل غير مسمى. وتعكس تصريحات الهيئة النيابية في مصر، خاصة من جانب أعضاء حزب مستقبل وطن التابع للأجهزة الأمنية والمدعوم منها تطبيعا مع توسع ولاية القضاء العسكري لتشمل المدنيين، في ظل الصلاحيات القانونية والدستورية الممنوحة للقضاء العسكري لتعزيز استقلاليته وحصانته، ما لا يدعو لإثارة القلق تجاه محاكمات المدنيين أمامه. ويعزز من هذا الاعتقاد بالميل نحو التطبيع مع توسع للقضاء العسكري التعديلات القانونية التي لحقت بتشكيل وهيكل القضاء العسكري على نحو يجعله مقارب لنظيره المدني، وفقا للقانون رقم 12 في عام 2014 والتي أعادت هيكلة هيئات القضاء العسكري لتتشكل من “المحكمة العسكرية العليا للطعون، والمحكمة العسكرية للجنايات، والمحكمة العسكرية للجنح المستأنفة، المحكمة العسكرية للجنح”. وبالمثل أضاف قانون رقم 77 لسنة 2019 المادة 55 لقانون القضاء العسكري والتي نصت على اختيار رئيس الجمهورية رئيسا لهيئة القضاء العسكري “من بين أقدم سبعة من أعضاء القضاء العسكري”، على نحو مماثل لطريقة اختيار رؤساء الهيئات القضائية المدنية الأخرى.
غني عن البيان أن هذا الوضع غير طبيعي بأي حال من الأحوال، وغير قانوني ويخالف ما استقرت عليه الشرعة الدولية والمحلية من حقوق المحاكمة العادلة، والتي من ضماناتها المحاكمة أمام القاضي الطبيعي، وعلنية المحاكمة، ألا أن الأمر الواقع والذي يطرحه هذا الوضع القانوني الجديد الذي يجب أن يتعامل معه المدنيون وممثليهم القانونيين يحمل عدة إشكاليات على الصعيد الإجرائي والتي قد تمثل في سياقا آخر بصيص أمل ربما قد يُسهم في إخراج الشخص من هذا الثقب الأسود يفتقد لعديد من الإجراءات والضمانات الأساسية. على سبيل المثال ينص قانون القضاء العسكري رقم 25 لسنة 1966 في مادته 31 على أن إجراءات التحقيق ونتائجها في تُعد من “الأسرار التي يجب على النيابة، وأعضاء الضبط القضائي، ومساعديهم من الخبراء وغيرهم ممن يتصلون بالتحقيق أو يحضرونه بسبب وظيفتهم أو مهنتهم عدم إفشائها، وإلا وقعوا في تحت طائلة العقوبات المقررة في هذا القانون”. يعني منطوق المادة بالتبعية أن هيئات الدفاع عن المدنيين في هذه القضايا بالتبعية في وضعية تهديد مستمرة قد تضعهم تحت مقصلة هذا القانون، في حال أفصحوا عن أي معلومات ذات صلة بالتحقيقات، ويحيط القضايا وتحقيقاتها بالسرية التي يستحقها المدنيون في محاكماتهم على الأقل. كذلك لا يبدو واضحا في التعديلات القانونية المستحدثة، ما يجب أن تمضي عليه المحاكمات والإجراءات في حالة المدنيين، ونظر دعاويهم.
على صعيد استثمار القائم بالفعل، فقد شهدت هذه المرحلة توسعا في إنشاء عددا من السجون العسكرية الجديدة وفقا لقرارات وزير الداخلية بشكل يتجاوز الاختصاص الأصلي لها من كونها مقرات مستهدفا بها أفراد القوات الشرطية، لاستخدامها ضد “المحبوسين احتياطيا” من المدنيين كما ورد في قرار وزير الداخلية رقم 1025 لسنة 2011 بإنشاء سجن عسكري بأحد قطاعات الإدارة العامة للعمليات الخاصة بقوات الأمن المركزي. لكن لتلك الأزمة وجها آخرا، وهو ما تكشف عنه واقعة الرئيس الأسبق محمد مرسي، والذي قُدم للمحاكمة للمرة الأولى فيما عُرف بقضية مذبحة الاتحادية في 4 نوفمبر 2013 منذ اختفائه في يوليو 2013، والتي أثارت جملة من الأسئلة والاعتراضات من جهة دفاعه حول محل احتجازه طوال هذه الفترة، والذي عٌلم لاحقا أنه كان في وحدة الضفادع البشرية بقاعدة أبو قير العسكرية، بعد أن أصدر وزير الداخلية قرارا بتحويلها سجنا عموميا شديد الحراسة، ونقل محمد مرسي لها لتنفيذ قرار حبسه الصادر من النيابة العامة في 5 يوليو 2013. تظهر الإشكالية هنا في قابلية تحول المقرات والمنشآت العسكرية لسجون خاصة بالمدنيين، الأمر الذي يُنتج حالة مرتبكة حول كيفية تصنيف هذا النوع من السجون إن كانت عسكرية بحكم الأمر الواقع لوجودها في مقر عسكري، أم أنها مجرد سجون شديدة الحراسة يصادف وجودها في مقرات عسكرية، وفقا لنص القرار القانوني المنشيء لها. ويحتوى قانون تنظيم السجون رقم 396 لسنة 1956 في مادته الأولى ثغرة أخرى، تسمح لرئيس الجمهورية بإنشاء واستحداث نوعا آخرا من السجون والمعروف بالسجون “الخاصة”، والتي يُعين فئة المسجونين فيها، وكيفية معاملتهم، والإفراج عنهم بقرار منه، دون تحديد وتعريف للمقصود بنوعية السجون الخاصة؛ لكن يُعلم من سياق الخبرة المصرية كونها غالبا تشمل السجون العسكرية والسجون شديدة الحراسة. وقد خول التعديل القانوني المستحدث في عام 2015 برقم 106 لوزير الداخلية صلاحية تعيين جهات إنشاء كل نوع من السجون، بما فيها بالطبع “السجون الخاصة”.
ثانيا: أين يقضي المدنيون عقوباتهم وفقا للأحكام العسكرية؟
أحد صعوبات البحث في هذا الملف تبدو في غياب معلومات كافية ومثبتة حول الأحكام العسكرية على المدنيين، حيث يبدو أن أحد السيناريوهات الغالبة في حالة المدنيين المحاكمين عسكريا، هو قضاءهم الأحكام الصادرة ضدهم في السجون العسكرية المختلفة، وهو ما يرجع في جانب منه لأزمة الوصول للمعلومات بالطبع، وفي جانب منه لضبابية هذه الأماكن وتعدديتها على نحو يٌصعب حصرها لتحديد الأماكن المحتمل وجود مدنيين بها. وقد أشار لتلك المعضلة أحد المحاميين العاملين في حقل القضاء العسكري لصالح المدنيين وكذلك العسكريين، والذي سبق له كذلك الخدمة في القوات المسلحة كضابط، حيث أفاد أن السجون العسكرية يختلف مفهومها عن السجون العادية من حيث أماكنها حيث أن بالإضافة لمقرات السجون العسكرية المعروفة فإن من السهل تحويل أي مقر إلى مكان احتجاز عسكري فقط بقرار إداري. وهو الأمر الذي شوهد بكثافة في سيناء في الفترة من 2014 إلى 2016. وهو ما يطرح كذلك أن سيناريو مماثل قد تكرر بامتداد العمليات العسكرية والأمنية أثناء الحرب على الإرهاب التي انطلقت في بعد 2013، حيث أن قائد أي كتيبة بإمكانه تحويل مكان معين في المعسكر أو الوحدة سواء كان غرفة أم مخزن إلى سجن عسكري. الأمر نفسه قد يحدث داخل أيا من المرافق أو المنشآت التي تمتلكها المؤسسة العسكرية أو تتولى حمايتها طالما تواجد في إدارتها في تلك اللحظة قائد كتيبة. ولا يسمح واقع تبعية هذه المقرات للمؤسسة العسكرية بإمكانية فرض أي نوع من الرقابة من جهات أخرى على هذه المقرات لحماية المحتجزين والسجناء ضد أي نوع من الانتهاكات والخروقات.
لكن يبقى في هذا الصدد عدد من المقرات ذات الصيت الشائع التي يُمكن الإشارة لها والتي أُشيع خلال العقد الأخير احتجاز مدنيين بها، مثل سجن أبو زعبل العسكري، والذي يُعرف باسم سجن أبو زعبل الصناعي أو أبو زعبل شديد الحراسة، والذي يتبع محافظة القليوبية، وهو كما سبق الإشارة في موضع آخر قد وردت توثيقات حول استخدامه لاحتجاز المدنيين، وإدارته من جانب قوات الجيش وضباطه في الفترة من 2014-2015 على الأقل، وهو ما لا يُمكن تأكيده استمراره حتى تاريخ كتابة هذه السطور؛ إلا وضع أبو زعبل العسكري قانونيا وإداريا يشهد لبسا كبيرا، حيث يفترض أن يتبع وزارة الداخلية، إلا أن الشهادات تُفيد أنه كان سجنا عسكريا بالفعل لوقت ما. هناك كذلك سجن العازولي، وهو من السجون العسكرية ذائعة الصيت، وهو يتبع محافظة الإسماعيلية ويقع داخل معسكر الجلاء، ويُذاع عنه اختصاصه بإيداع العناصر ذات التصنيفات السياسية الجهادية، أو “المتطرفين” وفقا لتصنيف الجهات الرسمية، ما يجعله محل شكاوى متعددة حول مئات المعتقلين المحتجزين هناك دون محاكمة والذين يتعرضون للتعذيب من أجل الضغط عليهم للاعتراف بجرائم لم يرتكبوها. من السجون كذلك التي ذاع صيتها في تلك الفترة هو سجن كتيبة 101 في شمال سيناء، ويمتلك هذا السجن خصوصية مقارنة بالسجنين السابقين من حيث شمول التوثيقات والتقارير الحقوقية الأخبار، ليس كمكان لتنفيذ العقوبات، وليس كمكان لاحتجاز المدنيين من سكان سيناء للتحقيق معهم والتعذيب والمعاملة القاسية؛ وإنما للقتل كذلك خارج القانون، على النحو الذي حوته عدد من التقارير الحقوقية البارزة كما في تقارير لمنظمة هيومان رايتس ووتش.
تُثار حول السجون العسكرية كذلك مسألة شديدة الحساسية، وهي لا ترتبط بتنفيذ الأحكام ضد المدنيين، ولكن احتجازهم وأوضاعهم غير القانونية. الجدير بالذكر في هذا الصدد أن السجون العسكرية كمقرات لاحتجاز المدنيين قد شهدت استهدافا لطيف واسع من الفئات المدنية، والتي لم تستثن فئات كالقصر، والنساء؛ إلا أن فئات مثل سكان سيناء، وممن صنفوا كعناصر متطرفة أو تابعين للجماعات المسلحة الإسلامية، ظلت صاحبة النصيب الأكبر في هذا الصدد، ما يٌثير قضية استهداف السكان الأصليين ضمن الانتهاكات الرئيسية التي تُرتكب في هذه السجون. كمان أن هذا التوسع في الاستهداف يعكس بالتبعية سلسلة من الانتهاكات التلقائية على صعيد غياب سجون خاصة فئوية لهذه السجون (للقصر أو للنساء)، ناهيك عما ورد عن المعاملة القاسية وغير الإنسانية والحاطة بالكرامة التي يلقها هؤلاء في تلك المقرات، وبقاء بعضهم في تلك المقرات لفترات غير قصيرة دون عرض على المحاكمة أو توجيه تهمة بعينها لهم، أو معرفتهم لسبب هذا الاحتجاز، وهو ما عبر عنه أحد المحتجزين السابقين في سجن العازولي لعدة أشهر، روى فيها تعرضه للتعذيب البدني والنفسي لاتهامه بالانضمام إلى جماعة يسارية.وهو ما شاركه فيه آخرون غيره وعائلاتهم، إضافة لأوضاع معيشية أخرى شديدة السوء داخل هذه المقرات.
خاتمة:
هدف هذا التعليق لتناول ظاهرة توسع القضاء العسكري ضد المدنيين وتطبيع وجوده داخل الحياة القضائية المصرية، وما يثيره هذا التطبيع من خطر على منظومة العدالة في مصر وضمانات المحاكمات ودولة القانون في مصر والقضاء وحقوق الإنسان والتي تتدرج في خطوات الشرعنة والمأسسة بشكل مستمر منذ 2011 وحتى تاريخه على الصعيد الدستوري والقانوني، والتي تُنتج أوضاعا إجرائية كذلك تغلق إمكانات خروج المدنيين من نفق التقاضي العسكري المظلم.