يشهد حزب الدستور في مصر أزمة داخلية وقانونية أبرزت في أحد جوانبها الدور المثير للجدل للجنة الأحزاب السياسية في النزاعات الحزبية، حيث أدى تدخلها وقراراتها إلى تعقيد الأزمة بدلًا من حلها. هذا التدخل يثير مخاوف بشأن تأثير اللجنة على مستقبل التنافس الحزبي والتعددية السياسية، خاصة مع اقتراب الانتخابات التشريعية المقبلة. هذه القرارات قد لا تضعف فقط قدرة الأحزاب على المشاركة الفعّالة، بل قد تُستغل كأداة للإقصاء والضغط السياسي، ما يعزز الحاجة الملحة لإدخال إصلاحات على قانون الأحزاب لضمان استقلالية الأحزاب ومنع التدخلات الإدارية تجاهها.
في يوم 12 أكتوبر الماضي، أجلت محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة الطعن المقدم من رئيسة حزب الدستور، جميلة إسماعيل، ضد قرار لجنة الأحزاب السياسية إلى جلسة 30 نوفمبر الجاري. وكان حزب الدستور وجميلة محمد اسماعيل بصفتها الشخصية، وبصفتها رئيسة حزب الدستور قد تقدما بطعن أمام محكمة القضاء الإداري في ١٩ سبتمبر الماضي رقم٩٨٩١١ لسنة ٧٨ ق اعتراضا على قرار لجنة الأحزاب السياسية الصادر برقم ٨٧ لسنة ٢٠٢٤، والذي نص على إعلان خلو منصب رئيس الحزب لحين انعقاد المؤتمر العام للحزب.
تعود الأزمة لسلسلة من الخلافات الداخلية التي يشهدها حزب الدستور منذ ٢٠٢٢، كانت أبرز محطاتها موضوع المشاركة في الانتخابات الرئاسية في ٢٠٢٣، والذي شهدا خلافا مبكرا في الرأي بين الهيئة العليا للحزب ورئيسته، وانتهى لتصويت الجمعية العمومية بعدم المشاركة في الانتخابات الرئاسية. وتجددت الأزمة بفصل عدد من الأعضاء في الهيئة العليا، وتجميد عضوية ستة آخرين. وبرغم قرارات الفصل والتجميد، استمر أعضاء الهيئة العليا في الاجتماع بصفة مستمرة، وخلصوا لجملة من الاتهامات لرئيسة الحزب كان من أبرزها تنفيذ لائحة داخلية وهمية ما أدى إلى عدم اعتماد الجمعية العمومية، وكذلك عدم فتح حساب بنكي للحزب بما يُعيق الرقابة عليه. وقد أشار الحزب في بيانه إلى مسؤولية لجنة الأحزاب السياسية عن الاتهام الأخير حيث دأبت اللجنة على التعسف مع الحزب عن طريق تعطيل اعتماد عدد من الإخطارات المقدمة من الحزب للسماح له بفتح حساب بنكي جديد، وترخيص موقع إلكتروني، ورفض اعتماد قرارات الجمعية العمومية المنعقدة في أكتوبر ٢٠٢٣ أو التأشير عليها، والتي دفعت الحزب لعدم المشاركة في الانتخابات الرئاسية السابقة، وانتخاب أمينا للحزب بالبحيرة وأمين الإعلام وهيئة التحكيم بالحزب.
وإزاء تقدم جبهة المعارضة ممثلة في الهيئة العليا بخطاب للجنة الأحزاب السياسية لإخطارها بقرار إسقاط عضوية رئيسة الحزب، فقد أخطرت لجنة الأحزاب الهيئة والحزب في يوم ١٩ سبتمبر ٢٠٢٤ باعتماد قرار الهيئة العليا بإسقاط العضوية عن رئيسة الحزب، والإعلان عن خلو منصب رئيس الحزب لحين عقد “المؤتمر العام” للحزب.
تتعقد أزمة حزب الدستور وفقا لما تدعيه رئيسة الحزب في طعنها القانوني أمام محكمة القضاء الإداري بمساهمة خطأ لجنة الأحزاب في تعقيد الخلاف، حيث اعتمدت اللجنة في قرارها بخلو مقعد رئيس الحزب على لائحة سابقة للحزب تعود لعام ٢٠١٢ لم يعد لها وجود، على الرغم من امتلاك الحزب للائحة جديدة في عام ٢٠١٨، كان قد سبق وتقدم بها للجنة ثلاث مرات على إثر تكرار اللجنة إبلاغها للحزب بعدم امتلاكه نسخة منها. وهي اللائحة التي أجرى الحزب انتخاباته الأخيرة وفقا لها والتي انتهت لانتخاب جميلة رئيسة للحزب، وتعيين محمد خليل أميناً عاماً، وإسلام أبو ليلة أميناً للصندوق. أي أن النتائج الانتخابية التي اعتمدتها لجنة الأحزاب جاءت وفقا لائحة ٢٠١٨. ووفقا للائحة ٢٠١٨، لا يُوجد هيكل إداري داخل الحزب يُعرف باسم المؤتمر العام، والذي حل محله الجمعية العمومية.كذلك يبدو التدخل المتجاوز من اللجنة في شئون الحزب في ظل الانقسام الحزبي بين جبهة جميلة إسماعيل، وجبهة الهيئة العليا والتي لم تحسم لأي منهما، والذي كان يقتضي منها التريث لحين استقرار الطرفين على حل للأزمة.
هذه الخلافات بين الدستور ولجنة شؤون الأحزاب السياسية ليست الأولى من نوعها، بل سبق وقاطع حزب الدستور الانتخابات البرلمانية التي أقيمت عام 2020 لأسباب تتعلق بعدم تعاون اللجنة مع الحزب، وقال علاء الخيام رئيس الحزب آنذاك في بيان له “حزب الدستور لن يشارك بمرشحين في هذا الاستحقاق لأسباب حاصلها فقدان التعاون المأمول من لجنة شؤون الأحزاب السياسية في تزويد الحزب بما يحتاج من مسوغات ليبادر إلى الطليعة التي اختارت أن تمثل مبادئ العيش والحرية والعدالة الاجتماعية”.
وقائع مماثلة في القضاء الإداري
يُجدد قرار لجنة الأحزاب السياسية باعتماد قرار الهيئة العليا لحزب الدستور مسألة حدود تدخل الجهة الإدارية ممثلة في لجنة الأحزاب في شئون الأحزاب الداخلية ونزاعاتها كذلك، والتي سبق أن عالجها قضاء مجلس الدولة. وكذلك تحديد اختصاص أيا من محكمة القضاء الإداري أو الإدارية العليا بنظر مسألة المراكز القانونية لقيادات الأحزاب.
تمثل واقعة تنازع رئاسة حزب الشعب الديمقراطي بين محمود الصاوي وأنور عفيفي في عامي ١٩٩٢-١٩٩٣ الحادثة الأقرب لواقعة حزب الدستور الحالية، حيث انتهت لجنة الأحزاب السياسية لعدم الاعتداد بأي منهما رئيسا للحزب. وهو القرار الذي خلصت محكمة القضاء الإداري في حكمها الصادر في ٢ مارس ١٩٩٣ بالقضية رقم ٦١٤٨ لسنة ٤٦ إلى خطأ اللجنة في هذا الموقف، والحكم صراحة بأنه:
“إذا نشأ نزاع دخل الحزب وتصارع حول رئاسته فليس للجنة شؤون الأحزاب السياسية التدخل في هذا الصراع أو الاعتداد بأحدهما أو عدم الاعتداد بكليهما، وإنما يُترك الأمر للحزب ذاته حتى يتم حسم الصراع الداخلي اتفاقا أو قضاء.”
وقد أيدت المحكمة الإدارية العليا هذا الاتجاه لاحقا بالنص على أن:
“أن القانون أوجب على الحزب إخطار اللجنة بالبيان الذي يتعلق برئيس الحزب أو تغييره لاستيفاء الشكل القانوني الذي يتطلبه النص ويقتصر دور اللجنة على مجرد تلقي الإخطار والعمل بمقتضى ما تضمنه الإخطار. ولم يخول القانون اللجنة ثمة دورا في هذا الشأن بخلاف ذلك وإلا عد تدخلا في شئون الأحزاب على خلاف نصوص القانون إلا في الأحوال المحددة على سبيل الحصر في المادة ١٧ من القانون رقم ٤٠ لسنة ١٩٧٧ وليس من بينها تحديد رئيس الحزب. وإذا كان ثمة خلاف على رئاسة الحزب فهو أمر موكول تقديره وحسمه للحزب ذاته حسب ما يتيحه تنظيم الحزب أو نظامه الداخلي أو أية قاعدة أخرى يرتضيها أعضاؤه”.
قضية رقم ٢٥٣٦ لسنة ٣٩
حكم بتاريخ ٢٩ يناير ١٩٩٥
تكشف أزمة حزب الدستور عن أحد جوانب الثغرات الموجودة في قانون الأحزاب السياسية والتي لم تٌعالج رغم التعديلات المتلاحقة التي طرأت على القانون، والتي كان آخرها القانون رقم ١٢ لسنة ٢٠١١.
أول هذه الثغرات وهو إبقاء لجنة شئون الأحزاب بعيدا عن شئون الأحزاب الداخلية، والتأكيد على عدم اختصاصها بالتدخل في النزاعات الداخلية خاصة في شق المستويات القيادية للأحزاب لصالح أي طرف، والتي بقت دون تغيير ويحيطها الضبابية في التنظيم القانوني بما يسمح لها بالتدخل وعرقلة الأحزاب.
لا يتضمن قانون الأحزاب السياسية نصا واضحا يمنح لجنة الأحزاب أو رئيسها صلاحيات في رفض قرارات الجمعيات العمومية للأحزاب السياسية أو إقالة رؤساء الأحزاب أو نزع الصفات القانونية لقيادات الأحزاب، أو إلغاء انتخابات داخلية للأحزاب مادامت قد تمت بطريقة ديمقراطية. يرد على ذلك استثناء وهو المادة ١٧ من قانون رقم ١٢ لسنة ٢٠١١ والتي تمنح الحق لرئيس لجنة الأحزاب بعد موافقتها أن يطلب من الدائرة الأولى بالمحكمة الإدارية العليا الحكم بحل الحزب وتصفية أمواله، وذلك بعد تحقيقات يجريها النائب العام تثبت تخلف أو زوال أحد شروط تأسيس الحزب المنصوص عليها في ذات القانون، وهي الشروط التي بدورها لم يتضمن أيا منها ما يرتبط بقيادات الأحزاب، وهو الأمر الذي كان يتطلب تدخلا تشريعيا واضحا لرأب هذه الثغرة.
وتأتي الثغرة الثانية والتي تُثيرها أزمة حزب الدستور مجددا والقضية المرفوعة أمام مجلس الدولة، وهي جهة الاختصاص لنظر هذه القضية ما إذا كانت محكمة القضاء الإدارى أم المحكمة الإدارية العليا والتي لا يوضحها قانون الأحزاب بشكل كاف. مع تعديل قانون الأحزاب في ١٩٧٩، أصبحت المحكمة الإدارية العليا هي جهة الاختصاص بالطعن على قرارات رفض تأسيس الأحزاب بدلا من محكمة القضاء الإداري -وفقا للمادة ٨- وكذلك أصبحت الجهة المنوط بها النظر في طلبات حل الأحزاب وتصفية أموالها، وفقا للمادة ١٧، بعد أن كانت تلك الصلاحية ممنوحة للقضاء الإداري أيضا.
كانت هذه التعديلات محل انتقاد حينها لأنها تجعل من التقاضي والطعن في مسائل الحل والتأسيس على درجة الإدارية العليا فقط، ما يحرم الأحزاب من إمكانية إعادة الطعن في القرارات الصادرة من القضاء لصالحها في حال كانت جهة النظر الأولى هي محكمة القضاء الإداري، ما عُد ذريعة للتضييق على الأحزاب الوليدة حينها. تبدو الأزمة في الوضع الراهن في أن قانون الأحزاب لا يوضح بشكل فاصل إن كانت الادارية العليا هي جهة الاختصاص المسؤولة عن نظر عن كافة شئون الأحزاب، أم أن نظر الإدارية العليا لمسائل مثل حل الأحزاب وقرارات رفض التأسيس هو سبيل الحصر في مقابل اختصاص القضاء الإداري بنظر كافة الإشكاليات والمسائل الأخرى المرتبطة بالأحزاب. والأخير، هو الاتجاه الذي مثل موقف محكمة القضاء الإداري الذي عكسته في بعض أحكامه، والتي أكدت فيها على أصالة اختصاص محكمة القضاء الإداري بمنازعات الأحزاب ما عدا التأسيس والحل ووقف إصدار صحف الحزب كما في الحكم ٥٢٩٤ لسنة ٤٧ الصادر في ٢١ سبتمبر ١٩٩٣، وكذلك الحكم ٦١٤٨ لسنة ٤٦ الصادر في ٢ مارس ١٩٩٣.
تأتي أهمية واقعة حزب الدستور في ضوء انطلاق التحضيرات للانتخابات التشريعية المقبلة في مصر، والتي من شأن الحكم المتوقع من القضاء الإداري فيها أن يؤثر على فرص الحزب على المشاركة في الانتخابات، وكذلك في ضوء ما يتردد عن قيام لجنة الأحزاب بمراجعة أوضاع الأحزاب السياسية المختلفة، وهو ما قد يُنذر بمخاوف من تكرار سيناريوهات مماثلة تجاه الأحزاب الأخرى لمنع مشاركتها في الانتخابات.
في هذا الصدد ربما يكون من الأهمية مراجعة قانون الأحزاب السياسية وطرحه للتعديلات في محاولة لمنح فرص عادلة ومتكافئة للأحزاب في سبيل البقاء في الساحة السياسية. وفي ظل تعدد محاور الاقتراحات لتعديل قانون الأحزاب، يبقى محور إبقاء جهات الإدارة ممثلة في لجنة الأحزاب السياسية بعيدا عن شئون الأحزاب الداخلية وذلك من خلال النص صراحة على ذلك في القانون، وتوضيح جهات الاختصاص القضائي في النظر في كافة المنازعات أو القضايا التي قد تثار بهذه الشأن، في مقدمة هذه التعديلات.