تنويه:
“تجب الإشارة بادئ ذي بدء إلى أن الاحتجاز داخل مقار الأمن الوطني هو أصلا احتجاز خارج نطاق القانون لأنه لا يكون بقرار من جهة قضائية، ولا تتطرق أي نصوص قانونية لتنظيمه بشكل مباشر، وتتخلله جملة من انتهاكات القوانين التي تنظم الإجراءات القانونية للاحتجاز، مثل التحقيق في وجود محامٍ، وإعلام المحتجز بالتهم الموجهة إليه، وإعلامه بمكان تواجده، إلخ… كما أنه لا تتوفر فيه أي من الحقوق التي كفلها الدستور والقانون لكل من تصادر حريته من قبل الدولة، حيث يسود مناخ من اللاقانونية الصرفة داخل تلك المقار. كل من يحتجز داخل مقار الأمن الوطني يكن في عداد المختفي قسريا والمعزول عن العالم الخارجي، بل إن بعضهم يقضي فترة اختفائه كاملة داخل المقر دون أن يعلم أين هو، ناهيك عن ذويه. ولذلك وجب التنويه إلى أن كل ما سيلي ذكره من تفاصيل لملابسات الاحتجاز والتحقيق والمعيشة داخل تلك المقار يحدث في إطار من الإخفاء القسري والاحتجاز بخلاف القانون. فمحاولة رسم صورة عن معيشة المحتجزين داخل المقار لا يجب أن تعتبر شكلا من التطبيع مع وجودهم بداخلها في المقام الأول، كما أن الحديث عن أي انتهاكات تتخلل التحقيقات أو المعاملة اليومية لا يجب أن يصرف النظر عن كون التحقيقات وسلطة الضباط وأفراد الشرطة ذاتها على المحتجزين مفتقرة إلى أي صفة قانونية”.
اعتمدت الجبهة المصرية لحقوق الإنسان في إنشاء هذه الصفحة التعريفية بمقر الأمن الوطني بشبين الكوم على مقابلتين هاتفيتين مع محتجزَين سابقين تعرضا للاختفاء القسري بالمقر لعدة أسابيع، أحدهما حامل لجنسية أجنبية. بالإضافة لذلك، اعتمدت الجبهة على أقوال ثلاثة مواطنين أفادوا بتعرضهم للاختفاء القسري داخل المقر أثناء تحقيقات النيابة.
مناطقيا، يقع المقر بمبنى مديرية أمن المنوفية بمدينة شبين الكوم بمحافظة المنوفية. ويتواجد المبنى بجوار محكمة مجلس الدولة وقسم شرطة شبين الكوم. وعلى الرغم من تواجد المقر بمبنى المديرية، إلا أنه يعتبر منفصلا تماما عنها، إذ له مدخل خاص بظهر المبنى لا يمكن الدخول إليه أو منه، ولا يمكن الوصول إليه عبر الطوابق الأخرى بالمديرية، ويخدمه طاقم مختلف تماما من الأمناء والعساكر والضباط التابعين للجهاز. ويتكون المقر من طابقين، يستخدم الطابق الرابع للاحتجاز بينما تجري التحقيقات في الطابق الثالث.
ملابسات الاعتقال
تبدأ الانتهاكات ضد المحتجزين من لحظة التحفظ عليهم واقتيادهم إلى المقر من قبل القوات التابعة له، حيث أن عملية الاعتقال ذاتها لا تكون قانونية. فالشاهد حامل الجنسية الأجنبية الذي تحدثت إليه الجبهة على سبيل المثال، أفاد بأن سبب الاشتباه به كان قيامه هو وصديقه بالتقاط صورة لأنفسهم أمام مستشفى، عَلما بعد القبض عليهما بأنه مستشفى عسكري. كما لعبت هيئتهما دورا في الاشتباه بهما، حيث أنهما عندما أفصحا عن موطنهما وكونهما طالبين بجامعة الأزهر؛ رد فرد الشرطة الذي استوقفهما بأنهما قادمان “من عند المجاهدين”. وحسب شهادة المحتجز السابق، لم يعلم هو وصديقه بأنهما يتعرضان للتوقيف من قبل أفراد شرطة نظاميين؛ لارتدائهم ملابس مدنية وخروجهم من سيارة “ملاكي”. أما الشاهد الثاني الذي تحدثت إليه الجبهة، فقد تم التحفظ عليه من قبل قوات تابعة للجهاز بعد أن حصل على قرار بإخلاء السبيل على ذمة قضية كان يُحاكم عليها، وأنهى القسم التابع له محل سكنه إجراءات إخلاء سبيله “على الورق”، رغم أن قوات الأمن الوطني قامت بالتحفظ عليه من داخل قسم الشرطة وفي ساعة متأخرة من الليل.
ويتعرض المحتجزين أثناء القبض عليهم للضرب والإهانة المتعمدة والاستيلاء على متعلقاتهم الشخصية كالهواتف. فأحد الشهود تعرض للضرب من قبل ثلاثة من أفراد الشرطة، وتم التحفظ على هاتفه دون أن يتمكن من إخبار أي من أصدقائه بما يتعرض له، ونظرا لامتناع القوات عن إخباره بهوياتهم أو الجهة التي سيتوجه إليها؛ توقع أنه يتعرض للخطف وأنه لن يظهر للعلن مرة أخرى.
أما الشاهد الآخر فأفاد بأن أفراد الشرطة الذين حضروا إلى القسم للقبض عليه قاموا بتقطيع بدلة السجن التي كان يرتديها بمطواة وتغميته بجزء منها، كما قاموا بضربه واجباره على المشي في وضعية انحناء شبيهة بالركوع حتى يتمكنوا من شده أو جره بسهولة، وقد حدث ذلك على مرأى من المحتجزين الآخرين بالقسم. وأفاد بأن القوات خرجت به من القسم واقتادته، مشيا على الأقدام، إلى مقر الأمن الوطني على مرأى من المواطنين الآخرين، وثلاثة من أفراد الشرطة يمسكونه بقوة من فوق الرأس ومن منطقة الرقبة والحزام. وخلال تلك العملية، أفاد المحتجز السابق بأنه تعرض لسيل من الإهانات اللفظية والتحرش الجنسي اللفظي والجسدي.
ظروف المعيشة
يتم الإبقاء على المحتجزين في الطابق الرابع، وهو عبارة عن صالة كبيرة مزودة بأربع كاميرات مراقبة، ويتناوب على حراستها أمين شرطة غير مسلح. توجد بالصالة نوافذ، لكنها مسدودة بشبابيك حديدية وسلك كثيف، ولذلك، فالغرفة سيئة التهوية. وتُضاء الغرفة طوال الـ24 ساعة بمصباح واحد فقط. تتراوح كثافة المحتجزين في المكان من فترة لأخرى، لكن قد يصل عددهم إلى 150 محتجزا. وبحسب شهادة محتجز سابق، فإن النساء المحتجزات لا يُخصص لهن مكانا منفصلا، بل يُحتجزن في الصالة ذاتها وسط المحتجزين الرجال.
فور الدخول للمبنى تُقطع ملابس المحتجز بـ”مطواة” وتغميته بها إذا لم يكن قد تم ذلك أثناء الاعتقال. ويبقى أغلب المحتجزين مجردين من ملابسهم ما عدا الملابس الداخلية، بما في ذلك النساء. لا يتسلم المحتجزون عند دخولهم للمقر أية أغطية للنوم عليها، ويجلسون مباشرة على الأرض. تُقيد أيدي المحتجزين طوال تواجدهم في منطقة الحجز من الخلف بكلابشات، وتُربط أرجلهم بسلاسل حديدية، على أن تكون الكلابشات والسلاسل مثبتة بحلقة حديدية بالحائط. ويٌجبر المحتجزون على البقاء في تلك الوضعية حتى أثناء النوم، فلا يٌسمح لهم بالاستلقاء؛ بل يٌجبرون على النوم جالسين.
يٌمنع المحتجزون أيضا من الحديث والحركة بشكل تام أثناء تواجدهم بالحجز، وقد يتعرض من يتحدثون أو يتحركون للضرب إذا سمع الحراس أصواتهم أو صوت تحرك السلاسل المربوطة بأرجلهم. ويسري الأمر ذاته على من يرغب في أداء الصلاة، فلا يٌسمح له بتغيير وضعيته أو استقبال القبلة؛ بل يؤديها وهو مقيد ومعصوب العينين، وبملابسه الداخلية.
“[لأني تكلمت] رزعني بالرجل في دقني من تحت سناني، غرزت جوا الشفة بتاعتي من تحت. اتفتحت وفي حد طبي خيطني وقتها. مفيش 3 دقايق ادالي حقنة بنج وخيطني…. أمين الشرطة حتى بيقولك لما تتحرك و[الضابط] يشوفك في الكاميرا وانا ماعملكش حاجة هاييجي يسب لي الدين. لا انا اقوم اطلع *** *** عشان يتبسط مني.”
(شهادة ٢)
بخلاف بعض مقار جهاز الأمن الوطني أخرى، لا يٌقدم بمقر شبين الكوم عددا ثابتا من وجبات الطعام يوميا، بل قد تكون وجبة واحدة ويختلف موعد تقديمها من يوم لآخر. وأكثر ما يٌقدم للمحتجزين “سندوتشات فول أو طعمية” أو وجبة “سندوتش كشري”، وهي عبارة عن نصف علبة “كشري” داخل رغيف خبز بلدي. وعلى الرغم من أن الأمناء يقومون بشراء هذه الوجبات ساخنة من خارج المقر، إلا أنهم ينتظرون لفترات طويلة حتى تبرد قبل أن يقدموها للمحتجزين.
فقد أفاد محتجز سابق بأن المحتجزين كانوا يشمون رائحة الطعام عندما يأتي به الأمناء ساخنا لكن لا يتسلموه مباشرة. وأفاد المحتجز ذاته أنه كان شاهدا على اختلاس الأمناء من الأموال المخصصة لشراء الطعام للمحتجزين، حيث كان يسمع الضباط وهم يٌوصون الأمناء بشراء رغيفين لكل محتجز، بينما كان الأمناء يشترون لكل محتجز رغيفا واحدا، ويحتفظون بفائض الميزانية التي يٌخصصها الضباط. من الأمور المشتركة كذلك مع المقار الأخرى، ما يتعلق بمياه الشرب، والتي يحصلون عليها من صنبور دورة المياه أثناء دخول الحمام. أما إن أرادوا الشرب خارج وقت استخدام الحمام، فيشربون من زجاجة مياه واحدة يضعها أمين الشرطة على فمهم ليشربوا منها وهم مقيدون، وذلك بعد إلحاح متكرر منهم.
“في الحجز حمامين، واحد أرضي “بلدي” والتاني “إفرنجي”. وقبل ما تروح الحمام، بتفك الكلابشات وتتقيد الايدين بحتة قماش. مافيش في الحمام ماسورة للاستحمام، فبيستعمل المحتجزين الخرطوم المثبت بحنفية المياه عشان يصبوا المياه على جسمهم. والمحتجز ما يقدرش يستحمى من غير إذن بده، ولو حد استحمى من غير إذن؛ بيتعاقب بالصعق بالكهرباء قبل ما جسمه يجف بالكامل”.
لا يدخل المحتجزون إلى الحمام عدد مرات ثابت خلال اليوم، بل يضطرون إلى التوسل للأمناء لعدة مرات لحين السماح لهم بالدخول، ولا يٌسمح في المتوسط بأكثر من مرتين دخول للحمام يوميا. وفي النهاية يتوقف الأمر على شخصية أمين الشرطة وما إذا كان يتعمد التعنت مع المحتجزين، لكن الأصل أن ينتظر الشخص لساعة على الأقل قبل السماح له بدخول الحمام.
“[نقول له] يا عم صلاح. [يقول] عايز ايه يا ***؟ عايز الحمام. اصبر يلا. يا عم صلاح هاعمل على نفسي. يا ابن -مش عارف ايه- اعملها على نفسك وقوم اغسل نفسك. البنت دي يا عيني قالتله البنات مابيستحملوش وحوضهم ضيق. البنت قالت له عايزة أدخل الحمام ماينفعش تستحمل زي الشاب، الشاب حوضه واسع قال لها انت هاتعملي فيها دكتورة هاتشتغليني؟”
(شهادة ٢)
على صعيد آخر، لا يتم توفير أدوات النظافة الشخصية للمحتجزين كماكينات الحلاقة سوى؛ بعد مطالبات متكررة وفي حالات استثنائية، ولا تٌراعى خصوصية المحتجزين أثناء استعمالها. ولا يوجد صابون بالحمام، وحتى إذا جاء محتجز إلى السجن من مقر احتجاز آخر ومعه صابون، فإنه في أغلب الأحيان يٌترَك مع متعلقاته الشخصية، ولا يسمح له باستخدامه، وفي حال إلحاح المحتجز فإن الصابون يٌوضع في الحمام ليستخدمه كل المحتجزين.
الأوضاع الصحية
وثقت الجبهة تواجد أصحاب أمراض مثل القلب والبروستاتا والسرطان، وكذلك أمراض مزمنة أكثر شيوعا كالضغط والسكر داخل المقر. وهؤلاء لا تٌقدم لهم الأدوية بانتظام؛ بل فقط في حال تدهورت صحتهم لدرجة تٌهدد بقائهم على قيد الحياة. ولا تختلف ظروف احتجاز أصحاب تلك الأمراض أو المعاملة التي يتلقونها عن غيرهم، بما في ذلك التعذيب. كما لا تٌراعى احتياجات مرضى السكر في دخول الحمام.
“واحد قال له انا مباخدش النوع دا [من الدواء] جسمي مش متعود عليه. قال له معندناش النوع اللي انت بتاخده، انت مش قاعد في مستشفى هنا. لما تروح السجن دور عليه. لما التاني يبدأ يسقط وجسمه يرتعش وريقه ينشف وهاموت وروحي بتطلع، يقول له اديله جرعة الإنسولين وأكله الأول عشان مياخدهاش كدا.” (شهادة ٢)
وبخلاف تقديم الأدوية، فلا يمكن القول بأن المحتجزين يحصلون على أي رعاية طبية حقيقية، حتى عندما تتدهور حالتهم الصحية بسبب ظروف احتجازهم. فأحد المحتجزين السابقين أٌصيب فور دخوله المقر بجرح قطعي في الصدر بينما كان أمين الشرطة يقوم بتقطيع ملابسه بمطواة لتغميته بها، وظل ينزف لفترة طويلة دون تدخل طبي. وورد بإحدى الشهادات أن من يتعرضون للتعذيب بالكهرباء؛ يفقدون في بعض الأحيان القدرة على التحكم في الإخراج، وخاصة التبول. وفي حالة تعرضهم للتبول اللإرادي، فإن الأمين المناوب يكتفي بنقلهم لمكان آخر ومسح الأرض، دون أن يسمح لهم بالاستحمام أو يحضر لهم غيارات ملابس، ودون أن تقدم لهم الرعاية الصحية اللازمة لحالتهم.
ولكن وثقت الجبهة حالة استثنائية لمحتجز كان يتم ترحيله بشكل دوري من المقر إلى مستشفى شبين الكوم لأداء جلسات علاج طبيعي كان بحاجة إليها، فكانت قوات تابعة للمقر تسلمه لمأمورية تابعة لمديرية الأمن، لينقلوه للمستشفى ويعيدوه فور انتهاء جلساته إلى المقر حيث كان مختفيا قسريا، لكن أثناء تواجده خارج المقر كان يتم فك الغمامة. وقد أفاد أنه في بعض الأحيان كان يُنقل من جلسات العلاج الطبيعي مباشرة إلى التحقيق.
أنماط الانتهاكات (المباشرة + المشاهدة على محتجزين آخرين)
كما سبقت الإشارة، فإن كل المحتجزين بالمقر هم في عداد المختفين قسريا. وثقت الجبهة بشكل مباشر ستة حالات اختفاء قسري وقعت داخل المقر بين 2018 و2023؛ ثلاث منها وردت بأقوال محتجزين أمام النيابة، وتراوحت خمس حالات منها بين أسبوعين وأربعة أسابيع. ووثقت الجبهة بشكل غير مباشر -عن طريق سؤال المحتجزين السابقين عن مشاهداتهم داخل المقر- تواجد أعداد كبيرة من المختفين قسريا داخل المقر، ووصول فترات اختفاء بعضهم لما يزيد عن ستة أشهر وأحيانا السنة. كما أفاد محتجز سابق بأن أحد معارفه مختف داخل المقر منذ ما يزيد عن ثلاث سنوات. كما أفاد المحتجز ذاته بأنه رأى أربعة على الأقل من القٌصر داخل المقر، استمر احتجازهم أكثر من عشرة أيام، وكانوا يتلقون المعاملة ذاتها، شأنهم شأن البالغين، بما في ذلك التعذيب بكافة أشكاله.
- التحقيق في غياب محام ودون إذن قضائي
تجري التحقيقات عادة في أوقات متأخرة من الليل، فيما عدا التحقيقات التي تٌجري قبل خروج المحتجز من المقر. يكون المحتجز مقيد اليدين، والقدمين، ومعصوب العينين أثناء التحقيق، كما يتم تجريده من ملابسه تماما – حتى الملابس الداخلية – قبل الدخول إلى غرفة التحقيق. يدخل كل محتجز لغرفة التحقيق بمفرده، وورد بإحدى الشهادات أن درجة الحرارة بالغرفة تكون منخفضة بدرجة يشعر المحتجز معها بالبرد. عادة ما يتواجد أثناء التحقيق أكثر من ضابط، ليكن أحدهم مسؤولا عن تحرير وكتابة مجريات التحقيق، ويقوم الثاني بالأساس على التعذيب، بينما يلعب الأخير دور المحقق الأكثر تفاهما.
كعادة تحقيقات جهاز الأمن الوطني، لا يٌواجَه المحتجزون بالضرورة بتهم معينة، بل تكون التحقيقات مفتوحة، وتتطرق للسؤال عن علاقة المحتجز بجماعات وحركات سياسية حظرتها الدولة بعد عام 2013، والنشاط السياسي للمحتجز. وفي حالة السجناء السابقين، تتطرق التحقيقات أيضا إلى السؤال عن زملائهم الذين تواجدوا معهم في السجن ونشاطهم والآراء التي يعبرون عنها داخل السجن؛ بل إن أحد المحتجزين السابقين أفاد بأن الضباط وجهوا له تهمة الضلوع في وقائع حدثت أثناء تواجده داخل السجن. أما طالب الأزهر حامل الجنسية الأجنبية، فقد جرت التحقيقات معه كلها على فرضية تبنيه للفكر التكفيري، وتبنيه موقفا عقديا يقضي بكفر ضباط الشرطة. وعلى الرغم من إنكاره لتبني ذلك الفكر بشكل قاطع منذ بدء التحقيق؛ دار التحقيق كله حول نقاشات فكرية وعقدية متعلقة بشرعية التكفير وموقف الطوائف العقائدية المختلفة كالمرجئة والخوارج، إلخ…، في وجود ضباط حاصلين على مؤهلات بأصول الدين وغيرها من الدراسات الإسلامية. وتتكرر التحقيقات عدة مرات أثناء تواجد المحتجز بالمقر؛ بل قد تتم بشكل يومي، ولا يختلف محتواها من مرة لأخرى حيث تتكرر الأسئلة والنقاشات ذاتها.
تتخلل التحقيقات تهديدات متنوعة للمحتجز لإجباره على الاعتراف بالضلوع في جرائم. وقد يأخذ ذلك شكل التهديد بإدراج المحتجز على ذمة قضية عسكرية، أو باحتجاز أفراد من أسرته، بما في ذلك النساء، والاعتداء جنسيا عليهن. أما الأجانب، فقد وثقت الجبهة تعرضهم للتهديد بتلفيق قضايا وترحيلهم إلى بلدانهم مع قطع سلاح كأحراز. ولا تنتهي التهديدات بمجرد الاعتراف؛ بل يطلب المحقق من المحتجز الإخبار بتفاصيل الواقعة وخطوات ارتكاب الجريمة المنسوبة إليه.
وحسبما ورد في الشهادات التي وثقتها الجبهة، فإن الضباط لا يتورعون عن إبداء آرائهم وانحيازاتهم السياسية أثناء التحقيقات، سواء مع من يتهمونهم بالتطرف أو من يتهمونهم بالضلوع في أنشطة سياسية “معادية للدولة”، وقد يصل الأمر لإبداء الضباط آراءهم وقناعاتهم حول عدم جدارة تيارات سياسية بعينها باعتلاء السلطة أو أحقية مؤسسات بعينها بذلك.
- التعذيب
وثقت الجبهة وقوع ممارسات تعذيب ممنهجة بمقر شبين الكوم على النحو الذي جاء في المقابلتين الهاتفياتين اللاتي أجرتهما الجبهة، وكذلك في تحقيقات النيابة. وحسب إحدى الشهادات، تتوقف حدة التعذيب أثناء التحقيقات على نوع التهم التي توجه للمحتجز، فيلقى المحتجزون الأصغر سنا أشكالا أشد من التعذيب لاتهامهم عادة بالمشاركة في احتجاجات أو الضلوع فيما يسمى بالعمليات النوعية.
تتعدد أشكال التعذيب التي تم توثيق وقوعها داخل المقر، بدءا من الضرب المبرح، والتعليق، وإطفاء أعقاب السجائر بجسد المحتجز، وانتهاءً بالصعق بالكهرباء، والاعتداء الجنسي. في حالة التعذيب بالكهرباء؛ يتم “تجهيز” المحتجز للتعذيب بسكب مياه على الساقين أو المنطقة التي يجلس المحتجز عليها بالأرض، وربط أسلاك بالإصبع الأصغر من كل قدم (أو بأعضاء أخرى من الجسد)، ومباشرة التحقيق وهو في تلك الوضعية. وعندما يدخل التحقيق مرحلة الضغط على المحتجز للاعتراف، يبدأ الضابط بتمرير تيار كهربي بسيط بجسم المحتجز، ثم تزيد حدة التيار إذا لم يٌقدم المحتجز إجابات “مٌرضية” لضابط التحقيق. وقد يستمر صعق المحتجز بتيار عال بشكل مستمر من 10-15 دقيقة، ثم إيقاف الكهرباء والعودة للتحقيق، وهكذا في جولات متتالية قد تستمر لـ9 ساعات. وفي بعض الأحيان، قد يتعرض المحتجز للتعذيب بالكهرباء دون أن توجه له أية أسئلة. وحسب شهادة وردت للجبهة، فإن استخدام الكهرباء أمر ثابت في أغلب التحقيقات، حيث أفاد محتجز سابق بأنه تعرض للتحقيق ثمانية مرات، تخللها كلها تعذيب بالكهرباء، وضرب مبرح في الأماكن الحساسة. وكما سبقت الإشارة، فقد يؤدي الصعق بالكهرباء لفقدان المحتجز القدرة على التحكم في الإخراج.
“وبيربط طرف كهرباء في العضو الذكري والطرف التاني في صباع رجلك الصغير. وبيقعد ساكت خالص، انا مابعملش حاجة. نص ساعة بعدين يشغل الكهرباء. حاجة بسيطة بتحسي أن في تنميل بس يقولك انا مش جاي اعذبك انا بازغزغك بس … لما يكون عايزك تغيري الكلام أو مش عاجبه، بيبدأ يشغل الكهرباء من غير ما يقولك. مش هاتقدري تنطقي حرف وانت بتتكهربي. روحك بتطلع مابتبقيش قادرة تاخدي نفسك. هو بيكهرب ويسيبك دقيقة زي ما يكون بيريحك ويبدأ يحقق معاكي… ممكن [الضابط] يتكلم بهدوء الأول على أساس ’نتعامل مع بعضنا كويس عشان نسرع الدنيا‘ ويفك الكهرباء بس يخليه قالع هدومه. [ثم يقول] آه هانبدأ نكذب؟ انا غلطان انا ابن *** **** مش هاكمل معك. هات التاني يكلمك. فجأة ايدك تتربط الكهرباء تتوصل تاني.”
(شهادة ٢)
أما التعليق فيأخذ عدة أشكال. فقد يتم كلبشة المحتجز من الأمام ثم تعليق الكلابشات في حديد بأحد النوافذ، بحيث يكون المحتجز معلقا بشكل كامل أو تكون أطراف أصابع القدم فقط هي الملامسة للأرض. وقد يتم تقييد قدمي ويدي المحتجز من الخلف بالكلابشات، ثم تُمرر سلسلة حديدية بين الكلابشات وتٌعلق على لوح خشبي أو بين كرسيين بحيث يكون المحتجز معلقا في الهواء. وقد يتم التعليق من ذراع واحد بحيث يكون وزن المحتجز كله محملا على مفصل الكتف، وأحيانا يتم التعليق من الأرجل. وتتراوح المدة التي يظل بها المحتجز معلقا في تلك الوضعية بين ساعة، وقد تصل لأربعة أيام، لا يتم فك المحتجز خلالها سوى للأكل أو أداء الصلاة. لكن في حالة التعليق من الأرجل، أفاد المحتجز السابق بأنه يكون لمدد أقصر من ساعة، حيث أن حالة المحتجزين تتدهور بسرعة لدرجة لا يمكن معها استكمال التحقيق معهم وهم في تلك الوضعية. وتترتب على التعليق أيضا أضرار صحية كبيرة، وخاصة التعليق من الأرجل.
“الكلابشات بتعور أيدك. من عند الشريان دي، بتندبح وبتتعور جامد. طراطيف صوابعك بتنزلي تقعدي ٦ أو ٧ شهور مش حاسة بها، لو اتقطعت مش هاتحسي بها. صوابع الرجل. بتقعدي تضغطي على الطراطيف عشان ماتحمليش على ايدك اللي متعورة… بس تعليق الرجلين مش بيطولوا فيه، ٣٠ دقيقة بس. رجلك بتنمل فوق لدرجة ما تحسيش بها. وفي ناس بترجّع وناس بتريل وناس مابتعرفش تتكلم عشان تجاوبه على الأسئلة.” (شهادة ٢)
علاوة على أن المحتجز يدخل إلى التحقيق وهو مجرد بشكل كامل من كافة ملابسه، يٌعد التحرش الجنسي اللفظي والجسدي أيضا أحد الانتهاكات الممنهجة أثناء التحقيقات والتي تستهدف الحط من كرامة المحتجز وامتهانه. وقد وثقت الجبهة بشكل مباشر تعرض محتجز سابق للاغتصاب بالإصبع من قبل أحد أمناء الشرطة داخل غرفة التحقيق، وكذلك تلويح الأمين بنيته ممارسة علاقة جنسية مع المحتجز، وقد حدث ذلك في حضور الضباط. وحسب الشهادة، فقد شارك الضباط أيضا في التحرش الجنسي اللفظي بإصدار تعليقات على مظهر المحتجز وأعضائه التناسلية. وقد ورد بشهادة المحتجز السابق أن صديقا له كان محتجزا معه في المقر ذاته تعرض هو أيضا للتحرش الجنسي، وأن التحرش امتد لقيام الأمناء بمقارنة مظهر الأعضاء التناسلية للمحتجزين.
يتعرض المحتجزون أيضا للتعذيب النفسي، وأبرز أشكاله هو اصطحاب أكثر من محتجز في وقت واحد إلى الطابق السفلي للتحقيقات، وإدخالهم بالدور، واحدا واحدا، للتحقيق وتعذيب كل محتجز بينما ينتظر باقي المحتجزين خارج الغرفة على مسمع من عمليات التعذيب التي تحدث بالداخل. وقد يظل المحتجزون بالخارج في هذه الحالة – وهم مقيدون، ومعصوبو العينين، ومجردون تماما من ملابسهم – لعدة ساعات لحين دخولهم وتعرضهم بدورهم للتعذيب. وقد يٌجبر من خرجوا من التحقيق، وتعرضوا للتعذيب على البقاء خارج الغرفة هم أيضا، وسماع أصوات تعذيب من يدخل بعدهم. وفي بعض الأحيان قد لا يتعرض باقي المحتجزين للتحقيق على الإطلاق، ويكون القصد هو تعمد اسماعهم أصوات تعذيب المحتجزين الآخرين فقط. وحسب شهادة محتجز سابق أجبر على الانتظار في ذلك الموقف أربع مرات، فإن الأثر النفسي، دفعه للرغبة في الموت والانتحار.
“اللي بيتعبني أكتر أصوات الناس اللي بتتعذب جنبي … انت في الدور اللي فوق بتسمعي الصوت اللي تحت. المديرية فاضية، لو واحد كح فيها كله بيسمع. كل تفاصيل التعذيب … والصريخ اللي بيصرخه [من يتعرض للتعذيب]، اللي قاعدين في المقر، المختفين قسريا… بيبقوا سامعينه زي ما باكلمك كدا وأوضح بشوية. دي حاجة بتقتل كل الناس اللي مختفين. أنا بالنسبة لي أتعذب وماسمعش أصوات الناس اللي بتتعذب. وانا باتعذب بادير نفسي واتناقش معاهم، وباسب، واعمل، ويغمى عليا….أهون عليا من اللي باحسه والناس دي بتتعذب وانا قاعد.”
(شهادة ٢)
كما يتبع المقر أسلوب الضغط على المحتجزين باحتجاز نساء من أفراد أسرتهم وتعذيبهنّ على مرأى منهم، وقد يشمل ذلك التعرية، والصعق بالكهرباء، والاعتداء الجنسي. فقد ورد بشهادة محتجز سابق أٌجبر على الانتظار خارج غرفة التحقيق أثناء تواجد محتجز وزوجته بالداخل، أنه سمع أصوات التحقيق معهما وتعرض كليهما للتعذيب، حيث كان الزوج معلقا، والزوجة مجردة من ملابسها بالكامل، وأنه سمع صوت تعذيب الزوجة بالكهرباء، وصوت صراخها وتوسلاتها للضباط وتصريحها برغبتها في إنهاء حياتها. وحسب شهادته أيضا، فإن الضباط أثناء التحقيق مع الزوجين كانوا يوجهون تلميحات وإيحاءات جنسية تمس علاقتهما الزوجية. وقد ظلت الزوجة محتجزة لفترة بقاعة الاحتجاز وسط المحتجزين الرجال.
ومن أساليب التلاعب بالحالة النفسية للمحتجزين إيهامهم من قبل بعض الضباط بانتهاء التعذيب. فقد يدخل ضابط إلى الغرفة أثناء التحقيق لإخراج المحتجز وتقديم بعض أشكال الرعاية له وإيهامه بأنه تدخل لوقف التعذيب، إلا أن المحتجز يٌعاد ثانية لغرفة التحقيق وتمارس معه الأساليب ذاتها.
“ضابط تاني يجي يقولهم ايه اللي بتعملوه دا، الواد بيموت انتو اغبياء الدول اللي برا هايعملوا علينا… عايز تستحمى ادخل استحمى عندك خرطوم اهو واغسل وشك. ويفك الغماية.. بس ماتبصليش بقى.. بص في الأرض. وبعدها يقوم واخدك يعذبك تاني هم متخيلين لما يعمل كدا انك هاتتكلمي.”
(شهادة ٢)
تجري عمليات التعذيب في وجود ممارس طبي- يرتدي “بالطو” طبي حسب شهادة محتجز سابق، لكن لا يُعلم ما إذا كان طبيبا)- لكن دوره يقتصر فقط على الإبقاء على المحتجزين في حالة تسمح باستمرار التحقيقات، دون أن يقدم لهم أي رعاية طبية لمعالجة الآثار الصحية للتعذيب. ويسري الأمر ذاته على المرضى؛ فقد وثقت الجبهة وقوع ممارسات تعذيب على مريض بالسكر (يبلغ من العمر ٦٠ عاما)، ومريض بالقلب والبروستاتا، ومريض بالسرطان، وتعرضهم لأشكال التعذيب ذاتها أثناء التحقيقات. ولم توثق الجبهة تقديم أي رعاية لهم سوى مسكن “ترامادول” كان يتناوله مريض السرطان قبل النزول للتحقيق.
“في بعض الأحيان كانت روحي بتروح وكان يغمى عليا من التعذيب. فهو يديني حقنة ومقويات. هو لابس بالطو بالمناسبة … [في مرة] كنت عامل إضراب، قال لي تمام دي حريتك اعمل إضراب براحتك، وبرده باتعرض للتعذيب. هو كان بيجي يديني حقن مقويات عشان جسمي يستحمل التعذيب.”
(شهادة ٢)
وبالإضافة للآثار الصحية التي سبقت الإشارة إليها، أفاد محتجز سابق بأنه شاهد تعرض محتجزين للإغماء والصرع على إثر التعذيب.
“أنا في عضوي الذكري كان جالي حرق من كتر الكهرباء والسلك اللي لفه. معلش دي حاجة تافهة هاتعملي ايه؟ … ما انا ايدي بتتعور وبيبان لحم أبيض. الحاجات دي مش هعالجك عليها. هاتطلبي رعاية من مين؟ لو اغمى عليك مابتطلبيش رعاية… ناس بتصوت وناس بتخبط دماغها في الحيطة. أو تحاول تخنق نفسها، بيدوها حقن ويرموها متكلبشة، ايديهم ورجليهم عشان مايتحركوش. حقن معرفش إيه هي، بس سريعة المفعول، بعدها بدقيقتين بتبدئي تهدي.. مسكنات قوية.”
(شهادة ٢)
نمط المعاملة
لا يٌنادَى المحتجزون بأسمائهم؛ بل يطلق عليهم أفراد الشرطة أرقاما لدى دخولهم للمقر، بحسب تواريخ ميلادهم (اليوم والشهر)، ويتم التعامل معهم طوال فترة تواجدهم بالمقر بتلك الأرقام. أما أفراد الشرطة المناوبون على الحجز فيستخدمون جميعا اسم “صلاح” لمناداة بعضهم البعض حتى لا يتعرف المحتجزون على هوياتهم.
تٌعتبر الإهانات والضرب أسلوبا أساسيا في المعاملة بين المحتجزين والإدارة (بما في ذلك الضباط). لكن يتفاوت سوء المعاملة التي ينالها المحتجز على حسب شخصية الأمين المناوب، وكذلك على حسب رغبة الضباط في التعنت مع محتجزين بعينهم. وقد ورد بشهادة محتجز سابق أن الأمناء أحيانا يستهدفون الأجانب بمعاملة أسوأ، وتعليقات تشي بقناعة الأمناء بأن المحتجزين الأجانب أعداء للدولة، كأن يصفوهم بأنهم قدموا من الخارج لـ”تخريب بلدنا”.
“[أثناء الحديث مع الضابط] بيفتح السبيكر. عندك كم خروف فوق؟ انزل اشتريلهم سندوتشات طعمية. هاتلي الخروف رقم كذا.”
(شهادة ٢)
ينتشر التحرش الجنسي من قبل الأمناء بالمحتجزين. وحصلت الجبهة على شهادة محتجز سابق أجنبي الجنسية تعرض هو وصديقه لتحرش جنسي مضاعف – لفظي وبدني – أثناء تواجده بمنطقة الحجز. ووصل الأمر إلى قيام أحد الأمناء بمقارنة مظهر المحتجز بمظهر زوجة الأمين وإصدار تعليقات تمعن في وصف أجزاء من جسمه بأوصاف شهوانية.
“[الأمين كان يقول] إيه دا انت عينك خضراء وشعرك أصفر. دا انت احلى من مراتي … إنت نَفَسك ريحته كيكة.”
(شهادة ١)
وكما سبقت الإشارة، فقد ورد بشهادة محتجز سابق تواجد سيدة مجردة من ملابسها – ما عدا الملابس الداخلية – وسط المحتجزين الرجال، وقد كانت تتلقى المعاملة ذاتها، والتي تصل لحد الضرب في حال تمتمت بأي صوت.