تنويه
تجب الإشارة بادئ ذي بدء إلى أن الاحتجاز داخل مقار الأمن الوطني هو بالأصل احتجاز خارج نطاق القانون حيث أنه لا يتم إستناداً إلى قرار من جهة قضائية، كما لا تتطرق أي نصوص قانونية لتنظيمه بشكل مباشر، وتتخلله جملة من انتهاكات القوانين التي تنظم الإجراءات القانونية للاحتجاز، مثل التحقيق في وجود محامٍ، وإعلام المحتجز بالتهم الموجهة إليه، وإعلامه بمكان تواجده،….إلخ. كما أنه لا تتوفر فى هذه المقار أياً من الحقوق التي كفلها الدستور والقانون لكل من تصادر حريته من قبل الدولة، حيث يسود مناخ من اللاقانونية الصرفة داخل تلك المقار، علماً أن كل من يتم احتجازهم داخل مقار الأمن الوطني يكونوا في عداد المختفين قسريا، والمعزولين عن العالم الخارجي؛ بل إن بعضهم يقضي فترة اختفائه كاملة داخل المقر دون أن يعلم أين هو، ناهيك عن ذويه؛ ولذلك وجب التنويه إلى أن كل ما سيلي ذكره من تفاصيل لملابسات الاحتجاز والتحقيق والمعيشة داخل تلك المقار يحدث في إطار من الإخفاء القسري والاحتجاز بخلاف القانون. فمحاولة رسم صورة عن معيشة المحتجزين داخل المقار لا يجب أن يمثل شكلا من التطبيع مع وجودهم بداخلها في المقام الأول، كما أن الحديث عن أي انتهاكات تتخلل التحقيقات أو المعاملة اليومية لا يجب أن يصرف النظر عن كون التحقيقات، وسلطة الضباط، وأفراد الشرطة ذاتها على المحتجزين مفتقرة إلى أي صفة قانونية.
مقدمة
استندت الجبهة المصرية فى إعداد هذه الورقة التعريفية لمقر فرع الأمن الوطنى بمدينة نصر على مقابلة هاتفية عبر شبكة الإنترنت مع أحد المُحتجزين السابق إحتجازهم بالمقر فى غضون العام 2020، إضافةً إلى عدد ممن تم احتجازهم فى المقر ذاته أخذاً من أقوالهم بتحقيقات النيابة العامة خلال الفترة من 2021 وحتى 2023، ولقد تواترت رواياتهم جميعاً على تعرضهم للإخفاء القسري داخل المقر لفترات تراوحت بين عدة أيام وبضعة أسابيع.
جدير بالذكر أن فرع قطاع الأمن الوطنى بدائرة مدينة نصر ثان يغطي مساحة جغرافية شاسعة، وذات كثافة سكانية مرتفعة جدا حيث تشمل دوائر أقسام شرطة مدينة نصر أول، وثان، وثالث مدينة نصر. وبدايةً من العام 2013 برز دور هذا الفرع بسبب تحوله إلى أداة القمع الرئيسية، ورأس الحربة للسلطة لإجهاض الحراك الطلابي في جامعة الأزهر بالقاهرة والذى أعقب انقلاب يوليو 2013، ومطاردة الطلاب الفاعلين في هذا الحراك، وكذلك محاصرة ومجابهة النشطاء السياسيين والفاعلين في التظاهرات السلمية التى تمت فى ذات الفترة وما بعدها.
ملابسات التوقيف والاعتقال
تتغير ملابسات توقيف واعتقال الضحايا من حالة إلى أخرى، فتارةً يتم القبض على الضحايا من محيط محال إقامتهم أو من داخلها بعد مداهمتها، وتارة أخرى من أماكن أعمالهم أو خلال ترددهم على المصالح أو المؤسسات الحكومية، وآخرين يتم القبض عليهم من الطرق أو الأماكن العامة بعد رصدهم وتعقبهم من الأمن. وبعض الحالات تم توقيفها عشوائياً بالشوارع والأماكن العامة للفحص الأمني بمعرفة دورية تكون تابعة للفرع، أو كمين أمني مشترك بين قوات الأمن الوطنى والبحث الجنائى، ومن هذا النوع الأخير يوجد كمين أمنى ثابت أمام قسم ثانى مدينة نصر حيث يتواجد الفرع:
” … انا كنت راجع على بيتى وراكب مينى باص وكنا بالليل متأخر حوالى 2 أو 3 صباحاً فكان فى كمين قدام القسم، وقف العربية وطلع أمين شرطة اخد كل البطايق كنا حوالي 15 شخص، وبعد فتره رجع سلم كل واحد بطاقته ولسه هنتحرك لقيت أمين تانى غالبا أمن وطنى نده عليا بالاسم، وقال لى تعالى وافتح لى موبايلك وانا رفضت وبعد كدا احتجزوني … ”
وفى سياق متصل وقفت الجبهة على رصد حالة لضحية جرى تسليمها إلى هذا الفرع بمعرفة رئيس حى شرق مدينة نصر، بما ينبئ بشكل واضح عن مبادرة وتهافت رؤساء الهيئات والمصالح والمؤسسات الحكومية وبعض العاملين فيها إلى تحويل أنفسهم كمرشدين، ومصادر معلومات لقطاع الأمن الوطنى طوعاً من غير أن يُطلب منهم ذلك، ودون أن يكون هذا الأمر من مقتضيات أو أعمال وظائفهم:
” … أنا رجل أعمال ومقاول وكنت فى حى شرق مدينة نصر بخلص أوراق، وطلبت مقابلة رئيس الحى وأنا بعرفه على نفسي سلمته كارت لحزب تحت التأسيس اشتركت فيه مع لواء سابق وهو صديق ليا، وطبعا الحزب قلباً وقالباً لدعم الدولة والسيد الرئيس، ومع ذلك أول ما رئيس الحى شاف الكارنية عمل اتصال بحد وبعدين طلب مني أتوجه لقسم ثان مدينة نصر لأنهم محتاجين يعرفوا منى بعض التفاصيل، ولما وصلت لقيتهم اتحفظوا عليا، وغموني، ودخلوني على ضابط فضل يحقق معايا كتير جدا عن حياتى، وبعدين كلم اللواء صديقى صاحب الحزب أو بمعنى أدق المبادرة واتأكد منه انى مش بكدب وبعد ما حقق معايا شوية وعدنى انه همشي ولكن اللى حصل انه احتجزني 3 أيام لحد ما لقيت نفسي هنا قدام حضرتك ومعمول ليا قضية انضمام لجماعة معرفش عنها أى حاجة … “
جدير بالملاحظة أن قوات الأمن وهي بصدد توقيف الحالات التى جرى التوثيق معها أو رصدها لم تبرز أى أوامر قضائية تسمح لها باعتقال الضحايا، وبالتالى فإن القوات الأمنية تقوم بالقبض على الضحايا أولاً؛ ثم تحتجزهم لفترات زمنية يجرى خلالها التحقيق معهم خارج إطار القانون ليتم تصنيفهم أمنياً، وبعدها يجرى وضعهم فى قضايا وفقاً لهذا التصنيف الأمنى، وأخيراً يجرى استصدار إذن قضائى للقبض على الضحية رغم كونه فى قبضة الأمن، وذلك ليتم من خلال هذا الإذن الصوري عرض الضحية على جهة التحقيق، وهذا الوضع هو ما يفسر اطراد ممارسة الأمن الوطني لجريمة مثل الإخفاء القسري للضحايا.
وعلى صعيد آخر، لا تفصح الجهات الأمنية عن ماهية الأسباب القانونية للقبض على الضحية أو طبيعة الجريمة المنسوبة إليه، أو الدلائل المتوافرة ضده، كما أنها لا تكشف خلال عملية القبض عن هوية أفرادها أو الجهة التى تتبعها مما يجعل الضحية لا يعلم عما إذا كان يتعرض لعملية قبض من إحدى الجهات التابعة للأمن أم أنه ضحية لعملية اختطاف، علماً أن المتبع فى حالات توقيف الضحايا من أصحاب الخلفيات السياسية أن تكون القوة القائمة على الضبط تابعة بأكملها لقطاع الأمن الوطنى أو تكون مشتركة من الأمن الوطنى والبحث الجنائى، وأحياناً قوات الأمن المركزى وذلك كله حسب تصنيف الأمن للضحية والمعلومات المتوافرة لديه عن مكان إقامته ومحيطه.
وإذا انتقلنا إلى مشهد انتقال الأمن للقبض على الضحايا من محال إقامتهم فإنها غالباً ما تتم فى ساعات متأخرة من الليل أو مع إقتراب الفجر، مصحوبة في بعض الأحيان بالترهيب والعنف، وتدمير محتويات المنازل والاستيلاء عليها، والتعدي بدون داعي أو مبرر على الضحية وأفراد أسرته، وفي حالات أخرى قد تكون هذه المداهمات أقل عنفاً أو حتى بدون أي مظاهر للعنف، وقد يكون المرجع فى هذا التباين تصنيف الأمن للضحية أو شخصيته أو طبيعة الضابط الذى يترأس المأمورية أو محيط الضحية من الجيران.
وفور ضبط الضحية فإنه يتعرض للتفتيش والتغمية والتقييد بالكلابشات، ويتم زجره وتهديده والتعدى عليه بالسب والقذف والضرب بغرض إخضاعه، وقد يصل الأمر أحياناً إلى التهديد بالسلاح سواء تم إظهاره أم لا، كذلك يتم مصادرة جميع الأدوات الشخصية، والأجهزة الإلكترونية التي تكون مع الضحية ويمتد الأمر إلى متعلقاته الشخصية، وأوراق الهوية الخاصة به، وبطاقاته البنكية … إلخ. وقد أفاد الضحايا أن هذه المتعلقات لا يتم عرضها عليهم فى النيابة العامة أو تسليمها إياهم عقب إطلاق سراحهم مما يعنى أن ضياعها والاستيلاء عليها يكون بمعرفة وتوجيه من القوات القائمة على عملية القبض.
” … لما أتقبض عليا أخدوا منى موبايلى ومحفظتى وكان فيها فلوسي ومتعلقاتي الشخصية وأوارقي الرسمية وطبعا كل دا انا مشفتهوش بعد كدا وبخصوص البطاقة فضلت معاهم وطلبوا منى وقت ما قرروا ينفذوا قرار المحكمة ويمشوني أني أروح مقر العباسية أقابل ضابط تانى هناك وأخدها منه …”
ولدى وصول المُحتجز للمقر، فإنه يتعرض لجملة أخرى من الانتهاكات تبدأ أولاً بتعمد الضباط والأمناء ترهيبه لزيادة إخضاعه؛ ثم أخذ بياناته وبيانات أفراد أسرته الشخصية بشكل تفصيلي، وقد يمتد الأمر ليشمل أفراد عائلته؛ ثم يُعاد تفتيشه ذاتيا والذي يتضمن هذه المرة إجبار المحتجز على خلع ملابسه عدا الداخلية منها، ويتعرض من يرفض ذلك للضرب، وتُصادَر أيضاً من المُحتجز قبل تسكينه فى الحجز الأحزمة وأربطة الأحذية، وفي بعض الأحيان الأحذية؛ ولا يُعلم إن كانت هذه الممارسات موجودة في حالة النساء اللاتي يردن على المقر.
ظروف المعيشة
يقع مقر الفرع بالدور الأول العلوي في قسم شرطة مدينة نصر ثان، وهو قسم هادئ إلى حد كبير حيث لا يتردد عليه عدد كبير من المواطنين على خلاف قسم أول مدينة نصر، والمرجع في ذلك أن دائرة اختصاص قسم ثان مدينة نصر تغطى بشكل أساسى جامعة الأزهر، ومدينتها الجامعية، والمنطقة الصناعية، وبعض المؤسسات والمصالح الحكومية، والشركات، ولا يوجد بها إلا عدد قليل من المناطق السكنية وقاطنيها؛ والمقر منعزل ومستقل عن القسم، وله سلم وبوابة من داخل القسم مخصصة لدخول المتابعات الأمنية والمحتجزين، وبوابة أخرى خارجية تؤدى مباشرةً إلى المكاتب المتواجدة بالمقر وهى خاصة بدخول الضباط، وبمجرد صعود سلم القسم للوصول إلى المقر يوجد استراحة بها عدد من المقاعد، وهي مخصصة لاستقبال المتابعات الأمنية أو المواطنين المترددين على مباحث القسم التى توجد فى الجانب الآخر من نفس الدور. وبالدخول لبوابة المقر، يوجد طرقة كبيرة تؤدي في نهايتها إلى عدد من المكاتب الخاصة بالضباط، إضافةً إلى غرفة تمثل المقر الرئيسى للاحتجاز فى المقر، ومساحتها حوالى 2 متر فى 3 متر، ولا يوجد فيها أى وسيلة للتهوية، ولم تتوصل الجبهة للآلية المُتبعة فيما يتعلق باحتجاز السيدات:
” … بخصوص السيدات أنا فترة وجودي هناك كانوا جابوا بنت مسيحية أسلمت، وكانت عايزة تتجوز شاب مسلم فقبضوا عليها هي والشاب وواحد كمان معاهم، … ، والاثنين اللي كانوا معاها كانوا معايا فى نفس الغرفة وفضلوا يومين تقريباً، ومشيوا كلهم، معرفش راحوا فين ولكن معنى كدا ان فى مكان تانى مخصص عندهم لاحتجاز السيدات … “.
لا يوجد فى المقر سوى حمام واحد فقط مُخصص للمُحتجزين، وهو مستقل عن غرفة الحجز، وبالتالي يجب أن يحصلوا مسبقاً على الإذن من الأمناء وأن يرافقوهم إليه. وتفتقد دورة المياه إلى النظافة وأدوات الغسيل، والتعقيم، والتطهير الأساسية، ويُسمح للمحتجزين بدخول الحمامات من مرة إلى مرتين يوميا حسب التشدد في التعليمات الصادرة من إدارة المقر، والتي قد تختلف من وقت لآخر دون معيار محدد لهذا الاختلاف. يعني ذلك بداهة أنه لا يُنظر لحاجة أصحاب الحالات المرضية المزمنة التي تطلب استخدام المرحاض بشكل مستمر. وقد ورد في الشهادات أن البديل المتاح في هذه الحالة، هو تسليم الأمناء زجاجات فارغة للمحتجزين، وتوجيههم لقضاء حاجتهم فيها:
” … كان فى حمام واحد وبيسمحوا مره أو اتنين حسب مزاجهم ومفيش استثناءات حتى لو حد مريض بيقولوا يصرف نفسه فى ازايز ميه فارغة بيدوها لنا … “
تهدف “الكلبشة” لمنع المحتجز من توقي أي اعتداء قد يلقاه أثناء التحقيق، مع اختلاف وضعية الكلبشة تبعا لمرحلة التحقيق مع المحتجز، فأثناء التحقيق تكون الكلبشة خلفية، وبعد انتهائه يتم كلبشة المحتجز من الأمام، وفى جميع الأحوال يكون المُحتجز معصوب العينين.
كما لا يتم تخصيص طعام للمحتجزين أو السماح لهم بشراء وجبات الطعام من الخارج أو المطاعم المحيطة بالقسم-وهي وضعية طبيعية لبقائهم مختفيين دون علم من ذويهم أو أي طرف- وبدلاً من ذلك تُقدم لهم وجبتين يوميا تتكون من رغيف وقطعة حلاوة فى الفطور، وأرز أو مكرونة مع قطعة دجاج أو لحم صغيرة في الغذاء. ويقدم الطعام في أواني بلاستيكية، ولا تقدم معه ملاعق فيضطر المحتجزون للأكل بأيديهم، وحسب المحتجزين السابقين، فالوجبات تكون في العموم باردة وسيئة الجودة، وغير مشبعة، والخبز دائما جاف. كما لا يتم مراعاة أصحاب الحالات المرضية وتوفير الطعام المناسب لهم:
” … الأكل كان سيئ جدا قطعة حلاوه او شوية رز او مكرونه وعموما هو كان اكل عساكر حتى مره الأمين هناك قال لنا الاكل بتاعكم دا اصلا المفروض خسارة فيكم ومتخدهوش لانه اكل العساكر …”
الرعاية الصحية
لا يٌسأل المحتجزين لدى دخولهم المقر عما إذا كانوا يعانون من أى أمراض، ولا يهتم أحد بتسجيل المعلومات التى قد يدلوا بها فى هذا الشأن، وكذلك لا يتم تحرير ملف صحي للمرضى منهم بأمراض مزمنة أو مُعدية؛ بل على العكس تماماً يغيب أى نوع من أنواع الرعاية الطبية والصحية والأدوية، ولا يوجد طبيب أو صيدلية بالمقر، وأكثر من ذلك قد تُستغل حالة المحتجز الصحية والمرضية للضغط عليه أو مساومته للإدلاء بمعلومات أو اعترافات من أجل السماح له بالحصول على العلاج :
“… من وقت ما دخلت لحد ما مشيت محدش سألني عن ما اذا كان عندى اى مرض او باخد اى علاج وطول فترة وجودى مفيش طبيب مره جه مثلا كشف على حد … ”
لا يخرج المحتجزون من المقر إلى النيابة مباشرة، حيث يُرحلون أولا على أحد أقسام دائرة المقر، وهو ما يكون بالتنسيق مع مأمورية تابعة للقسم، ويتولى القسم عرض المحتجز على النيابة العامة، مع التكتم على هذا النقل لمنع تسريب أي معلومة عن وجود المحتجز بما يسمح بوجود ذويه أو ممثل قانوني لدعمه وتمثيله أمام النيابة، خشية أن يُشجع ذلك المحتجز على تسجيل الانتهاكات التى تعرض لها بشكل مفصل أمام النيابة، أو لتدعيم مقاومته النفسية بما يسمح له بإنكار ما يوجه له من اتهامات أو دعاوى أثناء إجراء التحقيق أمام النيابة:
” … بعد 10 أيام إختفاء فى المقر أمين الشرطة بتاع الأمن الوطنى نزلني تحت الحجز بتاع القسم، وفى اليوم التاني اتعرضت على النيابة، وكان حظى كويس انى عرفت ابلغ اهلي وبعتولى محامى لان كان معايا متهمين جنائيين قدرت عن طريقهم ابلغ اهلي اني هتعرض على النيابة لان كل فتره اختفائي مكنوش يعرفوا انا فين …”
وخلال البحث وقفت الجبهة على قيام المقر بإرسال مُحتجزين ليتم “تخزينهم” أو التحقيق معهم واستجوابهم في مقر الأمن الوطنى بالعباسية أو تخزينهم في مقر آخر فى قسم أول مدينة نصر (الثلاجة)، وفى الحالة الأخيرة يتولى أحد ضباط المقر الانتقال والتحقيق مع الضحية في مكتب مخصص للأمن الوطنى فى قسم أول مدينة نصر.
أنماط الانتهاكات
عانت الحالات التي رصدها هذا التقرير من تجربة الإختفاء القسري دون استثناء،؛ ولكن تتعدد وتختلف مدد اختفائها القسري، ووفقاً لأقوال أربع حالات في تحقيقات النيابة العامة، بالإضافة لحالة وثقتها الجبهة مباشرة، فقد جاءت المدد بدايةً من عدة أيام إلى بضعة أسابيع، وطوال هذه المدة لا توجد أي احتمالية لإبلاغ الأهالي بمكان تواجد المحتجز، ولا عن طريق رشوة أحد الأمناء والذين يتم اختيارهم بعناية فائقة لضمان عدم تسريب أي معلومات عن المقر ولا المحتجزين به، وقد يكون هذا التكتم كذلك مدفوعا بالخوف من ارتكاب أي أخطاء قد تُخرجهم من العمل به قد تصل حد الزج بهم فى قضايا خاصةً. وق شهد ذات القسم حالة للزج بأميني شرطة تابعين للمباحث وهما: تامر شفيق و عبد الرحمن مبروك، وذلك فى قضية عسكرية ثم إعادة تدويرهما بعد قضاء عقوبتهما في قضايا سياسية بسبب قيامهما بتنفيذ قرارات إخلاء سبيل لمحتجزين سياسيين دون انتظار “تأشيرة” الأمن الوطنى.
وبسؤال المحتجزين السابقين عن مشاهدتهم داخل المقر، أفادوا برؤيتهم لحالات إخفاء قسري لمحتجزين آخرين، وتتراوح الحالة القانونية لهم بين من تم القبض عليهم للمرة الأولى (دون إذن قضائي)، ومن انتهت فترات محكوميتهم لكن لم يُصدر الأمن الوطني “تأشيرة” خروجهم بعد، وآخرين حاصلين على قرارات قضائية بإخلاء السبيل على ذمة قضايا، وهاتان الفئتان الأخيرتان هما غالبا من يتعرضون للتدوير والزج بهم في قضايا جديدة، علماً أن من يتعرضون للتدوير بعد خروجهم من السجون، تُجلب لهم ملابس “ملكي” قبل خروجهم للعرض على النيابة مباشرة، حتى لا يظهروا أمام النيابة بملابس السجن البيضاء.
التحقيق داخل المقر
لا توجد قواعد واضحة تنظم سير التحقيقات داخل المقر، ولا توقيتها، أو مدتها، حيث قد يبدأ التحقيق مباشرة مع المحتجز فور وصوله قبل توزيعه على غرفة احتجازه تبعا لأهمية حالته أو تصنيفه الأمني والذي أحضره للمقر. ولا توجد قواعد ثابتة لتوقيت التحقيق والذي قد يقتصر على دقائق قليلة، أو قد يمتد لساعات، وقد يُعقد في منتصف الليل أو أوقات النهار. وأفاد أكثر من محتجز سابق بأنهم تعرضوا لجولات تحقيق متكررة، قد تكون بمعدل تحقيق واحد أو أكثر فى اليوم أو لعدة أيام على التوالي:
” … اول ما دخلوني المقر قلعوني هدومى بشكل كامل مع اننا كنا فى اشد اوقات البرد وماكتفوش بكدا ولكن دخلونى غرفة ووقفونى قدام التكييف اكتر من ساعتين، وبعدها بدأ الضابط معايا التحقيق واللى استمر اكتر من خمس ساعات، وانا فضلت فى المقر 10 أيام اتحقق معايا فيها مرتين …”
لا تعكس الشهادات ما يُفيد أن التحقيق يدور حول تهم واضحة أو وقائع بعينها يتم السؤال عنها؛ وإنما يبدو التحقيق شديد العمومية، يبدأ من السؤال عن البيانات الشخصية والعائلية والأسرية للمحتجز بشكل تفصيلي، مرورا بأنشطته المختلفة والتي قد يرجع بعدها لسنوات خلت. ورد كذلك أن المحتجزين يُطالبوا باستعراض مسيرتهم الحياتية على صعيد التخصص الدراسي، والمسار المهني، والعلاقات الاجتماعية والأفراد الذين يرتبطون بعلاقات مع المحتجز سواء في عائلته الممتدة أو أصدقائه أو جيرانه، وصولا للسؤال عن موقف المحتجز ونشاطه من الأحداث السياسية الكبرى التي شهدتها مصر خلال العقد الماضي، بداية من ثورة 25 يناير، وحراك 30 يونيو، وسلوكه التصويتي في الانتخابات الرئاسية والنيابية في عامي 2011 و 2012 والاستفتاءات على التعديلات الدستورية بعد 2014، وعلاقاته بالوسط الناشطي الحقوقي، والسياسي، والإعلامي، خاصة ممن تصدروا المشهد السياسي في مصر بعد ثورة 25 يناير وصولا للحظة الراهنة على الصعيدين المحلي والوطني. كما تتضمن التحقيقات بشكل أساسي أيضا سؤال المحتجزين عن علاقتهم بجماعة الإخوان المسلمين، أو حزبها السياسي تحديدا، سواء كانت تربطهم بالفعل علاقات شخصية، أو علاقات عمل بأعضاء بها أم لا، أو حتى مجرد التصويت لصالحها فى أى إنتخابات:
” … اكتر حاجة كان مهتم بيها الضابط فى التحقيق انى افتح له الموبايل وفضل يضربنى ويعذبنى ويكرهبنى ويعلقنى لحد ما اكتشف انه بيتفتح ببصمة صابعى وفتحه فعلا ولما لقى ان ليا تواصل مع ناس بيشتغلوا فى المجتمع المدنى ركز كل التحقيق فى محاولة انى اقول له اى معلومات او تفاصيل عن الناس دى وحتى كان فى التحقيق الأول ضابط واحد ولكن فى التحقيق التانى كانوا 3 ضباط …”
وبالنظر لعمومية التحقيقات، وعدم وضوح الأسباب أو التهم التي انتهت بالمحتجز لمقر الأمن الوطني، فكثيرا ما يعمد المحققون لأساليب نفسية تهدف لإيهام المحتجز بوجود معلومات مستفيضة عن الشخص وأنشطته، بما يدفع المحتجز للتطوع والإفصاح عن أي معلومات قد يمتلكها، والتي قد يكون بعضها حاملا لإدانة للشخص، والتي انتهت للقبض عليه، فمن وجهة نظر الأمن الوطنى أنه طالما وقع الشخص تحت أيديهم فلا بد من أنه قد فعل شئ يستدعي ذلك.
ومن الممارسات المشهورة فى التحقيق هو سؤال المحتجزين عن بعضهم البعض خاصة إذا كان قد جرى القبض عليهم معاً أو بمناسبة عملهم فى نفس المجالات، أو هناك معرفة بينهم أو صلة قرابة. ووفقا لشهادة حصلت عليها الجبهة كان الظابط يستغل هذا الأمر لمحاولة تشكيك من يتم التحقيق معه فى أقواله حتى لو لم يكن بالفعل حصل على معلومات جديدة مستغلاً جهل المحتجز بما يدور في غرف التحقيق مع الآخرين.
تتفاوت المعاملة أثناء التحقيق على حسب الظابط الذي يُجري التحقيق، وحسب التصنيف الذي يُعطيه للمحتجز، ويمارس الضباط أثناء التحقيقات عددا من الألاعيب؛ كاتهام المحتجز بالكذب، والتشكيك فى كل ما يذكره، كما قد يتخلل التحقيق تجريد الضحية من بعض ملابسه، مع اعتداءات بدنية مهينة كالضرب بالأيدي والصفع، والصعق بالكهرباء. كما أن أسلوب خطاب المحققين يتعمد إذلال وتعنيف المحتجزين في أغلب الأحيان، وفي حال خلت التحقيقات من التعذيب الجسدي المباشر، فإنها تعتبر الفرصة الوحيدة أمام المحتجزين للحصول على معلومات أو تقديم طلباتهم للظباط خاصة تبليغ أهاليهم بمكان تواجدهم، وقد يستغل الضباط ذلك بإيهام المحتجزين بأنهم سيخرجون قريبا من المقر، وأحيانا يُصرح الضباط بشكل مباشر أو غير مباشر برغبتهم في “تعاون” المحتجز معهم سواء وقت احتجازه أو بعد خروجه:
” … اكتر حاجة كان بيحاول فيها معايا انى اديله اى معلومات عن اسماء لاقاها على موبايلى وبسبب انى معملتش كدا كان دايما يزود فى التعذيب بشكل بشع … “.
التعذيب
أفادت الحالات التي رصدتها الجبهة بتعرضهم للتعذيب بشكل دائم ومستمر، تارةً بالصعق الكهربائي في كل أنحاء الجسد، أو الأعضاء التناسلية؛ وتارةً أخرى بالصفع والضرب المبرح، مما يؤكد أنه أمر ممنهج وشائع بحيث يكون التعامل مع الضحايا بالتعذيب هو الأساس خاصةً خلال التحقيق، وغالباً لا يكون مطلوباً لذاته خارج إطار التحقيق:
” … التعذيب فى المقر هو انهم عرونى فى البرد ووقفونى قدام تكييف ساقع كمان اكتر من ساعتين وطول التحقيق شتيمة وضرب وكهرباء ولما موصلش لحاجة معايا علقونى بطريقة عندهم اسمها الشواية … دا بعيدا انهم بعد كدا كمان هددونى بزوجتي واهلى …“
وبالإضافة للسب المستمر، والضرب المبرح، والصعق بالكهرباء، فقد يأخذ التعذيب أشكالاً أخرى مثل التهديد بالقتل، وإيذاء وتعذيب الزوجة أو الأولاد والأهل إذا لم يعترف الضحية بالتهم المنسوبة إليه أو يتعاون فى التحقيق. ولا يفرق المقر فى التعامل بين النساء والرجال في التعذيب، وبالرغم من عدم توصل الجبهة إلى سيدة سبق أن احتجازها بالمقر حتى توثق معها تجربتها؛ إلا أنها قد حصلت على شهادة أحد المحتجزين فى هذا الشأن :
” … وقت احتجازى سمعت تعذيب شديد لبنت فى المقر وبعد كدا عرفت انها كانت مسيحية أسلمت وكانت هتتجوز ولد تعرفه فقبضوا عليهم وكان معاهم شخص كمان وكنت بسمع تعذيبهم كلهم طول الليل …”
نمط المعاملة
تختلف المعاملة داخل الفرع من فترة إلى أخرى، بمعنى أن حدة الانتهاكات وقوتها، وعمومها لتشمل جميع المحتجزين، أو خصوصها لبعضهم تتفاوت؛ ولكن يبقى الانتهاك هو الأصل في المعاملة طول الوقت، كذلك يعتمد الأمناء أسلوب التعنيف في مخاطبة المحتجزين والتعامل معهم والذى يبدأ من لحظة التوقيف، حيث أفاد أكثر من محتجز أنهم تعرضوا لإهانات وتعدى بالضرب بدايةً من وقت القبض عليهم، وكما سبقت الإشارة يتخلل التحقيقات التى تتم فى المقر إيحاءات من الضباط والأمناء العاملين به وكونهم فوق القانون مع قدرتهم على إلحاق الأذى بالمحتجز، وخضوعه التام لسلطتهم، وامتلاكهم سلطة مطلقة لفعل ما يشاؤون بالمحتجزين دون تقيد بأي ضوابط.
سلطة الأمن الوطني وعلاقته بالمؤسسات الأخرى
تعكس الشهادات وجود سلطات أمنية لجهاز الأمن الوطني ومقراته تجعله موازيا للمسار القضائي الرسمي، ويبرز ذلك بشكل أساسي في “طقوس” عرض المحتجزين على النيابة. فيٌزوَر بمحاضر تحريات الأمن الوطني تاريخ القبض على الضحية بحيث يتم إثبات التاريخ فيها ليكون اليوم السابق مباشرة للعرض على النيابة مراعاة للمدة القانونية، وبالتالي يبدو الأمن الوطنى وكأنه غير مسؤول عما لحق بالمحتجز خلال فترة اختفائه داخل المقر. كما ينعكس أيضا في تعليقات الظباط أثناء التحقيقات التي تتضمن أحيانا تهديدات للمحتجز حتى لا يغير أقواله، وفي بعض الأحيان تتخلل التحقيقات تلميحات من ظباط الأمن الوطني توحي بعلمهم بعدم ضلوع الشخص في أي جرائم ومع ذلك يحرصوا على الزج به فى قضايا، دلالة على التعسف والاضطهاد، وتحول الاحتجاز غير القانوني للأبرياء لهدف في حد ذاته.
ويستمر ارتباط ملف المحتجز بالأمن الوطني حتى خارج حالات التدوير، حيث أفاد الشاهد أنه بعد قرار إخلاء سبيله بقي بالقسم وأُخبَر أن سبب تأخر خروجه هو تأخر الاتصال من الأمن الوطني الذي يقرر ما سيُفعل به، سواء كان سيُسمَح بخروجه، وهو ما يسمى بـ”التأشيرة” أو يؤمر بترحيله إلى المقر ثانية إما للتحقيق والتدوير، أو يتم اقتياده لإجراء تحقيق نهائي قبل أن يخرج نهائيا من المقر وليس من قسم الشرطة:
” … بعد قرار المحكمة بإخلاء سبيلي بكفالة القرار دا فضل حبر على ورق وفضلت محتجز لحد ما الأمن الوطنى قرر انى امشى …”
يُلحق ذلك بكابوس آخر يُسمى المُتابعة الأمنية، وهو أمر دارج فى المقر حيث يُؤمر من يتم تنفيذ قرار إخلاء سبيله بضرورة المتابعة بعد خروجه، وذلك بالحضور خلال فترات منتظمة. وتُستغَل هذه المتابعة لاستخلاص أي معلومات عن المحتجز، أو آخرين، وأحيانا يُعرَض عليهم العمل مع الأمن ومساعدته بعدما يكونوا قد وصلوا لمرحلة من الإنهيار والإرهاق بفعل هذه الممارسات من تدوير ومتابعة، وتدخل فى كل شئون حياتهم بما يجعلهم في وضعية قد تقبل بهذا الأمر:
” … قبل تنفيذ قرار الإخلاء الضابط بتاع الامن الوطنى طلبنى وغمونى ودخلت له وقال لى هتروح تتابع فى العباسية مع ضابط هناك، وقال لى اسمه وقالى كمان ابقى خد بطاقتك منه هناك وسالنى فى بعض التفاصيل الشخصية عن عيلتى، واسرتى، ومكان سكنى، وهل هغيره ولا لا، وبعد كدا قال لى ابقى رد على التلفون لما نكلمك. فقولت له ساعتها انتوا اخدوته. قال قصدى تليفون مراتك، وهو كان عايز يعنى يوصلى رسالة انه محاصرنى وعارف عنى كل حاجة، وهيقدر يوصل لى او يوصل للناس اللى تهمنى. وفعلا هما كانوا كل شوية يوصلوا لحد من اهل مراتى او من اهلى عشان يسألوا عليا ويوصلوا لى رسايل عن طريقهم …”