اعتمدت الجبهة المصرية في إنشاء هذه الصفحة التعريفية بمقر جهاز الأمن الوطني بمدينة الشيخ زايد على مقابلات هاتفية عبر شبكة الإنترنت مع أربعة محتجزين سابقين ومحتجزة سابقة مروا على المقر بعد عام 2018، بالإضافة لأقوال 33 محتجزا أمام النيابة في جلسات بين يونيو 2021 وفبراير 2023، أفادوا بأنهم تعرضوا للإخفاء القسري داخل المقر، وقد تراوحت فترات الاختفاء التي وثقتها الجبهة بين عدة ساعات وما يزيد عن ثلاث سنوات. حاولت الجبهة أيضا جمع مشاهدات المحتجزين الخمسة السابقين الذين وثقت معهم بشكل مباشر حول ما رأوه من تجارب محتجزين آخرين تواجدوا معهم في نفس الفترة بالمقر.
وتجب الإشارة بادئ ذي بدء إلى أن الاحتجاز داخل مقار الأمن الوطني هو أصلا احتجاز خارج نطاق القانون لأنه لا يكون بقرار من جهة قضائية، ولا تتطرق أي نصوص قانونية لتنظيمه بشكل مباشر، وتتخلله جملة من انتهاكات القوانين التي تنظم الإجراءات القانونية للاحتجاز، مثل التحقيق في وجود محامٍ، وإعلام المحتجز بالتهم الموجهة إليه، وإعلامه بمكان تواجده، إلخ… كما أنه لا تتوفر فيه أي من الحقوق التي كفلها الدستور والقانون لكل من تصادر حريته من قبل الدولة، حيث يسود مناخ من اللاقانونية الصرفة داخل تلك المقار. كل من يحتجزون داخل مقار الأمن الوطني يكونون في عداد المختفين قسريا والمعزولين عن العالم الخارجي، بل إن بعضهم يقضي فترة اختفائه كاملة داخل المقر دون أن يعلم أين هو، ناهيك عن ذويه. ولذلك وجب التنويه إلى أن كل ما سيلي ذكره من تفصيل لملابسات الاحتجاز والتحقيق والمعيشة داخل تلك المقار يحدث في إطار من الإخفاء القسري والاحتجاز بخلاف القانون. فمحاولة رسم صورة عن معيشة المحتجزين داخل المقار لا يجب أن تعتبر شكلا من التطبيع مع وجودهم بداخلها في المقام الأول، كما أن الحديث عن أي انتهاكات تتخلل التحقيقات أو المعاملة اليومية لا يجب أن يلفت النظر عن كون التحقيقات وسلطة الضباط وأفراد الشرطة ذاتها على المحتجزين مفتقرة إلى أي صفة قانونية.
أولا: ملابسات الاعتقال
اختلفت ملابسات القبض على المحتجزين السابقين بين من قُبض عليهم من مكان عام ومن قبض عليهم في منازلهم. لم توثق الجبهة أية حالة قامت فيها القوات بإبراز أية أوراق رسمية تشير لتصريح قضائي بالقبض أو لهويات القائمين عليه، ولذلك لم يتمكن المحتجزون السابقون من معرفة ما إذا كانت القوة التي ألقت القبض عليهم تابعة بأكملها للأمن الوطني أم تواجد بينها أفراد تابعون لأقسام الشرطة التابع لها محل سكنهم. لكن الأغلب أن ضباطا وأمناء تابعين للأمن الوطني يكونون متواجدين، خاصة وأن بعض المحتجزين يخضعون للتحقيق مع الضابط ذاته الذي أشرف على القبض عليهم. بل وفي واقعتين وثقتهما الجبهة، كانت القوة كلها مكونة من ضباط وأمناء بلباس “ملكي” وفي سيارات مدنية لا تشير بأي شكل لكونهم أفرادا نظاميين تابعين لجهاز الشرطة، ما جعل المحتجز حينها يشك بالفعل بأنه يتعرض لمحاولة اختطاف:
“كنت بافكر هل احنا شرطة ولا دي عصابة إتجار بالبشر يعني؟ هو في النهاية دا مكانش واضح لي بأي حال من الأحوال لأن أنا مكنتش عملت حاجة تستدعي إلقاء القبض عليا … ورغم إني يعني على دراية واسعة بأساليب الداخلية من صغري أسمع عن الطرق اللي بيقبضوا بها على الناس وأنهم عادي بييجوا بلبس مدني. كل التفاصيل دي أنا مكنتش غريب عنها أبدا والعشرات من أهلي وأصدقائي تم إلقاء القبض عليهم. ولكن كان عقلي برده رافض يصدق أن دول شرطة بهذه البساطة … أو أن الشرطة ينفع تعمل كدا في البني آدمين. أن ينفع بدون أي إثبات وبدون أي دليل وبدون أي حاجة يوقفوك في عرض النهار كدا وياخدوك ويغموك ودا مايأثرش في سير الحياة بأي شكل من الأشكال. يعني ماشي في الشارع الناس مالتفتوش. يعني كان التساؤل اللي جوايا أنه لو كان الشرطة ينفع تعمل كدا ومحدش هايتدخل، ينفع أي عصابة تعمل كدا وبرده ماحدش هايتدخل لأنه خلاص الناس اتعودت أن دا بيحصل. لأنه [فعليا] هم العمليتين واحد. سواء كانوا دول داخلية أو عصابة يعني ف مفيش أي حاجة تفرق دا عن دا يعني … أنا قبل ما أركب العربية [الخاصة بالأمن الوطني] بصيت بعيني يمين وشمال باشوف في حد شايف … ماشوفتش حد واقف يشوف ايه اللي بيحصل. عادي الحياة مكملة بمنتهى الطبيعية ولا كأن في أي حاجة بتحصل. أقصد الناس مخدهاش حتى الفضول … فيعني واضح أن في حالة عميقة من التطبيع مع الحاجات اللي زي كدا في المجتمع المصري.” (شهادة 3)
لا يتم إعلام المحتجزين أثناء القبض عليهم بسبب القبض أو التهم الموجهة إليهم، بل إن الجبهة وثقت عدة حالات ألقي القبض فيهما على أشخاص فقط لتواجدهم مع أصدقاء كانوا مطلوبين للأمن الوطني، واستمر احتجازهم بعدها (في الأمن الوطني ومقرات أخرى) لأشهر طويلة. وقد يتخلل عملية القبض تهديدات وتعليقات من قبل الضباط توحي بتبنيهم آراءً مسبقة تُدين من يتعرض للاعتقال، مثل التلويح بأنهم “إرهابيون”. كما أفاد اثنان من الشهود الرجال بأن عملية الضبط تخللتها إهانات ذكورية تستهدف الحط من رجولة المقبوض عليه. وأفاد أحد الشهود أيضا بأن الضباط أثناء القبض عليه قاموا بتوجيه السلاح نحو رأسه لإجباره على ركوب السيارة التابعة للقوة، وذلك عندما سأل عن هويتهم وسبب اعتقاله.
بالنسبة لمشهد انتقال القوات إلى المنازل للقبض، فأفادت الشهادات أنه كثيرا ما يكون في ساعات متأخرة من الليل أو قرابة الفجر، ويكون الترهيب عنصرا رئيسيا ومتعمدا، فيتواجد خارج المنزل أعداد كبيرة من العساكر المدججين بسلاح كثيف، وتدخل قوات مسلحة إلى المنزل. وتتراوح معاملتهم لسكان المنزل، فأحيانا يتعمدون الحركة بعنف مثل كسر أبواب الغرف حتى وإن كانت الأبواب مفتوحة، واستعمال القوة لتثبيت الشخص حتى وإن لم يحاول المقاومة. وفي بعض الأحيان، يبدون درجة من الحرص على عدم إزعاج باقي سكان المنزل أو يتجاوبون مع طلباتهم بخروج عدد القوات الكبير من الغرف أو غير ذلك لعدم ترهيب أفراد الأسرة. تأمر القوة الشخص بتبديل ملابسه قبل الانتقال معهم، دون إعلامه بمكان توجههم، وفي إحدى الحالات تم إجبار الشخص على تبديل ملابسه أمام أحد أمناء الشرطة.
بالنسبة للأدوات الشخصية التي تكون بصحبة الشخص في منزله أو عند ضبطه من مكان عام، أفاد الشهود بأن القوات قامت بالاستيلاء على أدواتهم الشخصية ومن بينها أدوات إلكترونية، بعضها لا يحرز على الإطلاق وبالتالي يقع في عداد المسروقات – حتى أن بعض المحتجزين أفاد بأنه شاهد العساكر يستعملون أحد أجهزته الكهربائية بعد القبض عليه. وفي إحدى الحالات، ذكر شخص أمام النيابة أن القوات صادرت مبلغا كبيرا من المال بعد بالآلاف. كما تتعمد القوات في بعض الحالات إتلاف فرش المنزل تماما. فلا يقتصر الأمر على التفتيش العنيف الذي يؤدي لبعثرة الممتلكات أو قلب محتويات الخزانات وغيرها على الأرض، بل يتجاوز الأمر ذلك إلى تعمد شق مراتب الأسرة مثلا.
يتعرض المحتجز للتغمية والتقييد بالكلابشات عادة أثناء انتقاله للمقر، حتى إن كان على مرأى ومسمع من مواطنين آخرين حال القبض عليه من مكان عام. وفي حال القبض على أكثر من شخص سويا، قد يتم تفريقهم على أكثر من سيارة. وكان من بين الحالات التي وثقتها الجبهة إلقاء القوات القبض على أسرة كاملة مكونة من زوج وزوجة ورضيع؛ وتم فصل الزوج عن الزوجة والطفل واقتيادهم للمقر في سيارات مختلفة. وبعد الدخول للمبنى تم تفريقهم عن بعضهم البعض تماما.
أثناء اقتيادهم في السيارة، يجلس المحتجزون محاطين من الجانبين بعساكر أو أمناء شرطة، بما في ذلك النساء. وقد يُجبر المحتجزون على الانحناء ووضع أوجههم في الأرض. وأحيانا تتعمد القوات الانتقال بالسيارة إلى أكثر من مكان قبل الاتجاه لمقر الأمن الوطني حتى لا يتعرف المحتجز على الطريق من خلال تقدير المسافات أو الاتجاه.
يتعرض المحتجز عند دخوله للمقر لجملة من الانتهاكات، خاصة عند التفتيش الذاتي. يتضمن التفتيش الذاتي للرجال إجبار المحتجز على خلع ملابسه، بما في ذلك في بعض الأحيان الملابس الداخلية، وقد يتعرض من يرفض ذلك للضرب. تُصادَر أيضا الأحزمة، وفي بعض الأحيان الأحذية، من المحتجز قبل إدخاله للحجز. وتتعرض الغالبية للتحرش الجنسي بذريعة تفتيش تجويفات الجسم للتأكد من عدم تهريب المحتجز لممنوعات (حيث يخفي المحتجزون ببعض السجون فعلا مواد مخدرة أو غيرها من الممنوعات في تجويفات الجسم)، لكن لم تتوصل الجبهة لنساء تعرضن لمثل ذلك التفتيش لتوثيق تجاربهن.
“[عملية التهريب] اسمها في السجون أن انا ’رافع حاجة‘. بس انت واحد جايبه من بيته أكيد هو مش رافع حاجة. هو الموضوع إهانة وخلاص.” (شهادة 1)
كما يتعمد الضباط والأمناء ترهيب المحتجز أثناء دخوله، فقد سمع أحد المحتجزين السابقين أصوات نباح ولهاث كلاب على مسافة قريبة منه. كما يتعمد الضباط إيهام المحتجزين بأنهم سينزلون إلى مكان ضيق ومنخفض تحت الأرض، عن طريق التحرك بهم في اتجاهات معاكسة وإجبارهم على الانحناء. و بسبب التغمية بشكل كامل أثناء التواجد داخل مبنى الأمن الوطني، فدوما ما تتضمن الحركة جرا أو دفعا عنيفا من الأمناء بسبب عدم قدرة الشخص على الرؤية.
“فَرَد ايده وبيقول وطوا [انحنوا]. ف وطّينا بعدين فَرَد ايده تحت وقال وطوا تاني فوطينا عايز يحسسنا اننا داخلين خندق. بس [الضابط] دخل جنبنا عادي. هو باب عادي.” (شهادة 1)
ثانيا: ظروف المعيشة
يقع المكان الرئيسي للاحتجاز بالطابق السفلي (البدروم) بالمقر، وهو عبارة عن ممر طويل يبلغ عرضه حوالي 3 أمتار به ستة غرف حجز موزعة على اليمين واليسار وتوجد بوابات حديدية على طرفي الممر. بدلا من الدخول من البوابة الرئيسية للمقر، كثيرا ما تنتقل السيارات بالمحتجزين إلى داخل المبنى عبر الجراج. من الجراج يتم إدخال المحتجزين قبل غرفة تسمى “السويتش”، وهي التي يناوب بها أمناء الشرطة المسؤولين عن حراسة منطقة الحجز والتواصل مع الضباط بالطوابق الأعلى. بجانب غرفة “السويتش” وقبل الدخول عبر البوابة الحديدة لممر الحجز، توجد بعض الغرف الإدارية التي تستخدم هي الأخرى للاحتجاز. أما الباب الحديدي الموجود بنهاية الممر فيؤدي إلى الطوابق العليا التي تجرى بها التحقيقات. وتراقَب كل الغرف بالكاميرات. ولا يتم غلق أبواب غرف الحجز.
تتراوح مساحة غرف الحجز بين غرف تتسع لبضعة أفراد وأخرى تتسع للعشرات. أفاد أحد المحتجزين السابقين بأن الحجز به غرفتان متقابلتان تبلغ مساحتهما حوالي 9 أمتار عرض في 15 متر طول أو أكثر. وإلى جانب الاحتجاز بالغرف، يتم الإبقاء على بعض المحتجزين على جانبي الممر أيضا. كما يتراوح تصميم الغرف من حيث عدد النوافذ، فبينما تخلو بعض الغرف من أي نوافذ توجد بالبعض الآخر ثلاث نوافذ. وحسبما وثقت الجبهة، فإن الطابق السفلي غير مجهز للتعامل مع الأمطار الغزيرة، والتي قد تؤدي لأن تغمر المياه أرض الطابق كاملا حتى يصل ارتفاعها لمستوى الركبة مثلا وحتى تؤدي لتلف الفرش تماما.
وحسب المعلومات التي جمعتها الجبهة من المقابلات الشخصية، فإن أي محتجزات من النساء لا يتم تسكينهن في منطقة الحجز بالطابق السفلي، بل على الأغلب تخصص لهن غرفة أو أكثر من الغرف الإدارية بالطابق الأرضي بعيدا عن منطقة الحجز. فأفادت المحتجزة السابقة بأنها احتجزت مع نساء أخريات بغرفة إدارية قريبة من مدخل المقر، وكانت عند الخروج للحمام تشاهد وتكون على مرأى مواطنين قادمين للمقر لاستخراج أوراق أو غير ذلك من الإجراءات. ولكن ذكرت المحتجزة السابقة بأنها لم تكن تُجبر على ارتداء الغمامة أثناء تواجدها في غرفة الحجز أو خروجها للحمام، بل كان يتم تغميتها فقط عند الصعود للتحقيق.
تقع الحمامات التي تخدم منطقة الحجز داخل أكبر غرفتي حجز. بكل غرفة توجد منطقة خاصة بالحمامات بها حوضان للغسيل وعدد من المباول ودورتا مياه، لكن قد تكون إحداهما خارج الخدمة في بعض الأحيان. لا توجد كاميرات بمنطقة الحمامات، ولا يوجد بها مياه ساخنة.
يُسمح للمحتجزين بدخول الحمامات من مرة إلى مرتين فقط يوميا حسب صرامة التعليمات التي تعطيها الإدارة في أي فترة من الفترات. ولا يتم نزع الغمامات أو الكلابشات عن المحتجزين قبل دخولهم إلى الحمام، ما يعني أنهم ينتقلون من غرفهم إلى الحمامات (التي قد تكون في غرف أخرى) وأعينهم مغماة وأيديهم مقيدة. في حال طلب بعض المحتجزين الدخول للحمام مرة إضافية خلال اليوم، يضطرون لمناداة الأمناء عدة مرات والانتظار لفترات طويلة حتى يستجيبوا لهم، وكثيرا ما يقابلون بالتعنت. ويسبب ذلك صعوبات إضافية لمرضى السكر وغيرهم من أصحاب الحالات المرضية التي تستلزم الدخول المتكرر للحمام.
عند دخول المحتجز للمقر، يتم تسليمه بطانية أو اثنتين يفترش بها الأرض. وأفاد كل من تحدثت إليهم الجبهة أن الأغطية كانت شديدة الاتساخ وغير كافية للوقاية من البرد، خاصة وأن بعض الغرف يكون بها ما يزيد عن خمس مراوح، ويوجد بالبعض الآخر مكيف هواء يبرد درجة حرارة الغرفة بدرجة كبيرة. وحسب محتجز سابق، فلم يكن مسموحا للمحتجزين بالجلوس، بل كان يفرض عليهم النوم مستلقين طوال اليوم. وذكر بعض المحتجزين السابقين أن الأماكن التي بقوا فيها كانت شديدة البرودة لقربها من فتحات التكييف المركزي أو المراوح، وأن تسكينهم هناك كان في بعض الأحيان متعمدا، وقد أدى ذلك في بعض الأحيان لعدم قدرتهم على النوم على الإطلاق. وتلقت المحتجزة التي ألقي القبض عليها بصحبة طفلها الرضيع المعاملة ذاتها، حيث كانت الغرفة شديدة البرودة ولم تستلم المحتجزة سوى غطاء واحدا خفيفا لتستعمله هي وطفلها، وقابل الأمين طلبها بالحصول على غطاء آخر بالسخرية من طلبها.
تظل الإضاءة بالغرف طوال 24 ساعة. وبسبب غياب أي مصدر ضوء خارجي، لا يتمكن المحتجزون من معرفة الوقت بأي شكل سوى عن طريق تبديل ورديات الحراسة وعن طريق مواقيت الصلاة التي يعلمون بها ليس عن طريق سماع أذان من أي مسجد قريب لكن عن طريق الأمناء الذين يبلغون المحتجزين بدخول وقت الصلاة، وقد يسمحون للبعض بالذهاب للحمام للوضوء، لكن لا يشمل ذلك بعض المحتجزين المصنفين ضمن فئات أكثر “خطورة” حسب الجهاز، والذين يظلون مقيدين طوال الوقت.
تختلف طريقة “كلبشة” كل محتجز بين من يقيدون من الأمام أو من الخلف أو من تقيد إحدى أيديهم في ماسورة مرتفعة مثبتة بالجدار. وبينما كانت تلك المواسير محصورة في غرف بعينها فقط، أفاد بعض المحتجزين بأن المقر قام في السنوات الأخيرة بتثبيت المواسير في كل الغرف، وأنه في بعض الفترات تتم كلبشة كل المحتجزين في تلك المواسير طوال اليوم، حتى أثناء النوم وتناول الطعام، ولا يتم فكها إلا عند انتقال المحتجز للحمام أو في الحالات النادرة التي يسمح فيها للمحتجز بالاستحمام.
تقدم للمحتجزين ثلاث وجبات يوميا؛ لكن جودتها تختلف من فترة لأخرى حسب درجة التضييق التي تتعمد الإدارة فرضها على المحتجزين. يقدم الطعام في أواني بلاستيكية، ولا تقدم معه ملاعق فيضطر المحتجزون للأكل بأيديهم. عادة يقدم في وجبة الإفطار فول وحلاوة طحينية أو مربى مع رغيف خبز أو اثنين؛ وفي العشاء رغيف خبز مع قطعة جبن صغيرة. أما الغداء، فتقدم فيه قطعة دجاج (بحجم فخذة دجاجة صغيرة مثلا) أو قطعة لحم صغيرة جافة وسيئة الجودة مع خضار وأرز. أما العشاء فيحصل فيه المحتجزون على رغيف خبز أو اثنين مع جبن ومربى. ويفرض على المحتجزين الأكل، ويراقبهم الحراس للتأكد من تناولهم للطعام كاملا، لدرجة أن أحد من أدلوا بشهادتهم للجبهة أفاد بأن أحد المحتجزين معه لم يكن يحب الحلاوة الطحينية وكان يضطر لإخفائها تحته حتى لا يلحظ الأمناء أنه لا يتناولها وكان يخشى اكتشافهم للأمر مخافة توقيع العقاب عليه. أما مياه الشرب، فتكون من زجاجات بلاستيكية موجودة بمنطقة الحجز يملؤونها من صنابير الحمام.
وحسب المحتجزين السابقين، فالوجبات تكون في العموم مشبعة حتى وإن كانت سيئة الجودة. ولكن أثناء فترات التضييق تقل الكمية لتصبح قطعة لحم “بحجم عقلة الإصبع” أو أصغر حسب شهادة أحد المحتجزن السابقين.
“أمناء الشرطة كانوا بيحنوا علينا فاللي يتبقى من أكلهم كانوا بيدوهولنا تخيلي 12 واحد أو 13 قاعدين… أنا مش باكل بصل مثلا أمناء الشرطة كان متبقي منه في الفطار بصلة فالبصلة اتقسمت على ال12 واحد. في بلحة. كلتها عشان لازم آكلها عشان تعبان. كنت بقوم داخل الحمام الدنيا تلف بيا. كنت تعبان جدا من قلة الأكل والسكريات. البلحتين. نساير اتقسمت على 12 واحد. وهتاكليها.” (شهادة 1)
وقد أفاد محتجز سابق بأنه شهد بنفسه تدهور الحالة الصحية لأحد المحتجزين معه بسبب سوء جودة الطعام وقلته، وبلغ الإعياء الذي عانى منه درجة عدم القدرة على الحركة تماما وعدم قدرته على التحكم في الإخراج، واحتياجه للحمل من قبل محتجزين آخرين ليذهب للحمام. وانتشرت أنباء بعد خروج صاحب الشهادة من المقر بأن ذلك المحتجز توفي بين عامي 2020-2021 متأثرا بالأمراض التي أصيب بها أثناء تواجده في المقر، بعد أن وصلت المدة التي قضاها فيه حوالي تسعة أشهر، لكن لم يتسنّ للجبهة التأكد من ذلك بشكل مستقل.
وأفاد محتجز سابق أيضا بأن أحد أمناء الشرطة أخبر بعض المحتجزين بأن سبب سوء جودة الطعام هو قيام الأمناء بالسرقة منه.
“كل الموضوع ان كان في سرقة في الأكل جوا. ميزانية الأكل كانوا حاطينها والأكل اللي بينزل لنا مش أكلنا احنا هم بيجيلهم ميزانية لأكل المحتجزين اللي تحت الأكل بتاع المحتجزين دا كان المفترض كل يوم وجبة بيجيبوها من حاتي أو اي حتة فاللي كان بيحصل ايه. أن العساكر كانوا بيخلوا الأكل اللي ينزل للمساجين يدوه للعساكر وأن أكل العساكر يدوهولنا وكمان ناقص. الأكل الميري بتاع العساكر احنا كنا بناكله.” (شهادة 1)
الرعاية الصحية
لا يسأل المحتجزون عما إذا كانوا يعانون من أمراض مزمنة عند دخولهم للمقر؛ والفرصة الوحيدة لطلب الرعاية الصحية هي أثناء التحقيق إن كان تعامل الضابط المحقق يسمح بمثل ذلك الطلب. والاستثناء الوحيد كان فترة انتشار وباء كوفيد-19، حيث وثقت الجبهة توجيه الأسئلة للمحتجزين عن احتياجاتهم الصحية، لكن دون تسجيل وقيد إجاباتهم والانتباه لاحتياجات كل شخص على حدة.
بشكل دوري يمر “تمرجي” على منطقة الحجز ليعالج بعض الأمراض البسيطة كالإسهال أو الإمساك، وكذلك ليعالج آثار التعذيب مثل الحروق الناتجة عن التعذيب بالكهرباء؛ ويقوم برفع ما يشبه التقرير للضباط حول الحالة العامة للمحتجزين لكن دون كشف طبي على المحتجزين. وحسبما أفاد محتجز سابق، فإنه في بعض الحالات يقدم العلاج بجرعات غير مناسبة تسبب نتائج عكسية، كأن يعالج الإمساك بجرعة كبيرة من الملين فيتسبب للمحتجز بحالة إسهال. أما العلاج في حالات البرد الحادة والارتفاع الشديد في درجة الحرارة، فأفاد محتجز سابق بأنه شهد تسليم الممرض لأحد المحتجزين جرعة واحدة من مسكن خافض للحرارة “كاتافلام” وحبة واحدة من مضاد حيوي دون أن يستكمل المريض برنامج العلاج كاملا. بالإضافة للتمرجي، أفاد أحد المحتجزين السابقين بأنه كانت هناك إمكانية لطلب العرض على طبيب في الحالات الصحية الحرجة، لكن لم يكن مجيئه مضمونا في أغلب الأحيان. كما أشارت الشهادات إلى أن الأمناء يتعاملون مع الشكاوى الصحية للمحتجزين باستخفاف:
“وكل شوية أقول لهم أنا باموت ف يفضلوا يضحكوا. في واحد اسمه [تم الحذف] بيقول انتو لما تروّحوا امال احنا هانشتغل ايه؟ شخص كان بيضحك كل شوية أقول له أنا باموت بيضحك.” (شهادة 1)
وورد بالشهادات أيضا أن المحتجزين كانوا يصابون بالجرب بسبب اتساخ البطانيات التي يسلمها لهم المقر للنوم عليها وبسبب قلة الاستحمام؛ وتزداد صعوبة الأمر عندما يصاب المحتجزون بأدوار برد، فيصبح الاستحمام للحد من الجرب والأمراض الجلدية صعبا بسبب تعرض المحتجز للجو البارد من المراوح أو المكيفات.
في ذروة انتشار وباء كوفيد-19، وثقت الجبهة إصابة بعض المحتجزين بأعراض الفيروس من ارتفاع الحرارة أو الإعياء، دون أن تستجاب طلباتهم بالعرض على أطباء أو بتوفير الأدوية. كما وثقت غياب أية إجراءات للتعقيم سوى إجراء احترازي واحد هو عزل المحتجزين القادمين حديثا للمقر لسبعة أيام بغرفة في الطابق السفلي ذاته، ثم نقله بعدها إلى منطقة الحجز الرئيسية.
أفاد محتجز سابق أن ظروف الاحتجاز السيئة داخل المقر (والتي وصفها محتجز آخر بأنها كانت أسوأ من سجن العقرب الأسوأ سمعةً بين سجون مصر) كانت تدفع بعض المحتجزين لسلوكيات ضارة بالنفس على أمل الحصول على مساعدة أو الخروج من المقر. ومن بين تلك السلوكيات قيام بعض المحتجزين بإحداث جلطات بأطرافهم عن طريق ربطها بما يشبه الحبل، وذلك حتى تشفع لهم حالتهم الصحية لعرضهم على النيابة ثم نقلهم إلى سجن رسمي. وورد بالشهادة أنه عندما اكتشفت إدارة المقر قيام المحتجزين بمثل تلك الممارسات، لجأت لتجريد المحتجزين لفترة من كل ملابسهم عدا الملابس الداخلية لقرابة 10 أيام؛ حتى أن المحتجزين الراغبين في تأدية الصلاة كانت تسلم لهم البناطيل ثم يأخذها الأمناء ثانية بعد انتهاء الصلاة. كما ورد بالشهادة أيضا أن تلك الوقائع زادت من استهتار الضباط والأمناء بالشكاوى الصحية للمحتجزين، وروى محتجز سابق أنباء تناقلها المحتجزون عن وفاة أحد زملائهم بالمقر بجلطات كان الطبيب قد عاينها ورجح أن يكون المحتجز قد قام بربط ساقه عمدا هو الآخر، لكن لم تتمكن الجبهة أيضا من الاستوثاق من ذلك بشكل مستقل.
يخرج المحتجزون من المقر إلى النيابة مقيدين ومغمين لحين وصولهم لمبنى النيابة. ولا يراعى تواجد أطفال بصحبة المحتجزات أثناء الترحيل، فقد أفادت محتجزة سابقة أن الترحيل بصحبة طفلها في سيارة الترحيلات كان صعبا للغاية بسبب كثرة الاهتزاز وارتجاج السيارة، ما دفعها للجلوس على أرض السيارة.
ثالثا: أنماط الانتهاكات (المباشرة + المشاهدة على محتجزين آخرين)
كما سبقت الإشارة، فإن كل من بداخل المقر هم المخفيين قسريا، ولم توثق الجبهة أي استثناءات على ذلك. وتوزعت مدد الاختفاء القسري التي رصدتها الجبهة، والتي أُثبِت 28 حالة منها في أقوال أمام النيابة، بالإضافة لخمسة حالات وثقتها الجبهة مباشرة، كما يلي:
أقل من يوم: شخصان
3 – 15 يوم: 6 أشخاص
أسبوعين – شهر: 8 أشخاص، بينهم امرأة
أكثر من شهر وأقل من 6 أشهر: 14 شخص
أكثر من 3 سنوات: 9 أشخاص.
لا توجد أي احتمالية لتبليغ الأهالي بمكان تواجد المحتجز، ولا عن طريق رشوة أحد الأمناء أو العساكر. وقد يكون المحتجزون على علم بتواجدهم في أحد مقرات الأمن الوطني لعلمهم بممارسات الجهاز، لكن السبيل الوحيد لمعرفة المقر المعين الذي يتجهون إليه هو بتقدير اتجاه سير السيارات التي تقتادهم للمقر والمسافات التي تقطعها (حيث أنهم يكونون مغمين أثناء الاقتياد للمقر). بل إن المحتجزة السابقة أفادت أنها لم تعلم بمكان تواجدها إلا بعد خروجها من المقر ونزع غمامتها أثناء الترحيل منه لتعلم أنها بمدينة الشيخ زايد. وفي بعض الحالات الاستثنائية، قد تفصح القوة القائمة على ضبط المحتجز عن المكان الذي سيتوجه إليه، خاصة إن كانت هناك أوامر من الضابط المسؤول عن ملف ذلك المحتجز بذلك.
ومما سرده المحتجزون السابقون عن سير التحقيقات، يتضح أن الضباط يستغلون جهل المحتجز بمكان تواجده كنقطة ضعف للتوكيد على سلطتهم المطلقة عليه، حيث سؤل أكثر من محتجز في التحقيق عما إذا كان يعلم بمكان تواجده، ليُقابل تخمينه أحيانا بالتهكم من قبل الضابط.
“قال لي احنا هنا انت عارف المكان اللي انت فيه دا ايه؟ قلتله لا. قال لي انت قاعد في أمن الدولة عارف يعني ايه أمن الدولة؟”
وبسؤال المحتجزين السابقين عن مشاهداتهم داخل المقر، أفادوا بأنهم شهدوا بين زملائهم المحتجزين من كان متواجدا داخل المقر منذ 21 شهرا على الأقل، وأن وجود محتجزين طالت مدد اختفائهم عن السنة كان أمرا عاديا. كما رصدت الجبهة من مشاهدات المحتجزين السابقين وقوع حالات إخفاء قسري بحق نساء تجاوزت الثلاثة أيام. وأفاد محتجز سابق بأنه تواجد معه في المقر طفل قاصر لا يتجاوز عمره 15 عاما بدا من طريقة كلامه أنه من دولة عربية أخرى، وكان قد قضى داخل المقر فترة طويلة هو الآخر. كما رصدت الجبهة من خلال محاضر النيابة تعرض طفل قاصر للاحتجاز داخل المقر لشهرين. وتتراوح الحالة القانونية لهؤلاء المختفين قسريا بين من تم القبض عليهم للمرة الأولى (دون إذن قضائي)، ومن انتهت محكومياتهم لكن لم يصدر الأمن الوطني “تأشيرة” خروجهم بعد، والحاصلين على قرارات قضائية بإخلاء السبيل على ضمة قضايا. وهاتان الفئتان الأخيرتان هم غالبا من يتعرضون للتدوير والزج بهم في قضايا جديدة، وقد وثقت الجبهة وقوع عدة حالات داخل مقر الشيخ زايد. وأفاد الشهود بأن من يتعرضون للتدوير بعد خروجهم من سجون، تُجلب لهم ملابس “ملكي” قبل خروجهم للعرض على النيابة مباشرة، حتى لا يظهروا أمام النيابة بملابس السجن البيضاء – بل وقد تكون تلك الملابس من بين ممتلكات محتجزين آخرين قبض عليهم بصحبة حقائب سفر على سبيل المثال.
التحقيق في غياب محام ودون إذن قضائي
لا توجد قواعد واضحة تنظم سير التحقيقات داخل الأمن الوطني. في كثير من الأحيان لا يتم “تسكين” المحتجز في مكانه مباشرة، بل يتم اقتياده للطوابق العليا التي تجري فيها التحقيقات فور دخوله للمبنى. ووفقا لشهادات المحتجزين السابقين، فلا يسأل المحتجزون عما إذا كانوا بحاجة للطعام أو الماء أو دخول الحمام، على الرغم من أن بعضهم تم اصطحابه إلى المقر في ساعات متأخرة من الليل واستمر التحقيق معه لساعات.
وبخلاف من يؤخذون للتحقيق مباشرة فور وصولهم للمقر، قد ينتظر البعض عدة أيام حتى يُعرض على ضابط التحقيق. ووفقا لمشاهدات المحتجزين السابقين الذين تحدثت إليهم الجبهة المصرية، فإن بعض المحتجزين يقضون كامل فترة اختفائهم داخل مقر الشيخ زايد دون أن يمثلوا للتحقيق أمام الضابط ولو مرة واحدة، وقد تصل تلك المدة لأربعة أشهر حسب ما ورد في أقوال محتجز أثناء عرضه على النيابة. أما زمن التحقيق فيتفاوت بين ساعات متأخرة من الليل أو بعد الفجر أو وسط اليوم. وتتراوح مدته بين عدة دقائق وعدة ساعات. وأفاد أكثر من محتجز سابق بأنهم تعرضوا لجولات تحقيق متكررة، قد تكون بمعدل تحقيق واحد في اليوم لعدة أيام على التوالي، أو تحقيقات عدة خلال اليوم الواحد.
أفاد أحد الشهود بأن التحقيقات تجري في عدة طوابق يخصص كل منها لصنف معين من “التهم”؛ بحيث تجري التحقيقات مع المتهمين بالانتماء لجماعات إسلامية مسلحة في الطابق الأول – وهو الطابق الذي تُمارس به عمليات التعذيب بشكل دائم وأساسي؛ أما الطابق الثاني والثالث فتجري بهما التحقيقات مع المنتمين لجماعات سياسية مدنية\غير عنيفة. وحيث أن المحتجزين يتم الإبقاء عليهم خارج أوقات التحقيق في الطابق السفلي (“البدروم”)، فإنهم يسمعون أصوات التعذيب التي تجري في الطابق الأول (ومن بينها تعذيب بالكهرباء).
“واحنا قاعدين كنت باسمع ناس بتعذب دا كتير جدا. كتير جدا وانا نايم طول الوقت باصحى على أصوات ناس بتتعذب.” (شهادة 5)
قبل الدخول إلى التحقيق، قد يجبر المحتجز على الوقوف لفترات طويلة في بهو خارج غرفة التحقيق، وقد تتخلل هذه الفترة مضايقات وإهانات من الأمناء والعساكر.
“في الحتة بتاعة العساكر كل شوية يغلسوا عليا. دم غلس كل شوية ’ولا انت! اقف ماتسندش عالحيطة!‘ كل شوية ’اقلع الجزمة دي هاتها.‘ آجي أقلعها بجد يقول ’لا لا خلاص‘ العسكري اللي معهم التاني الطيب.” (شهادة 1)
من بين ما رصدته الجبهة في محاضر النيابة ومن خلال المقابلات الشخصية، أفاد ثمانية أشخاص على الأقل أمام النيابة أنهم احتجزوا بسبب تواجدهم مع أصدقاء أو أقارب مطلوبين، أو للضغط على أقارب لتسليم أنفسهم أو لجمع معلومات عن أصدقاء أو أقارب. أما التهم التي وجهت إليهم لاحقا أمام النيابة، فالسواد الأعظم منها مرتبط باستخدام المحتجزين لحساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، سواء كان نشاطهم مرتبطا بالشأن العام أم لا، وتم إدراجهم بسبب ذلك في تهم انضمام وتمويل ونشر أخبار كاذبة وإساءة استخدام مواقع التواصل الاجتماعي. ولم توثق الجبهة سوى بعض الاستثناءات على ذلك كحالة تاجر سلاح كان متواجدا بين المحتجزين داخل المقر، ومحتجز ضبط بسبب نشاط اقتصادي لا تشوبه شبهة عدم قانونية. ورصدت الجبهة أيضا ضبط وإخفاء ستة أشخاص على الأقل إما بسبب أنشطة قديمة توقفت منذ عام 2012 أو بسبب وجود قضايا سابقة بسجلهم إما حصلوا فيها على البراءة أو أنهوا محكومياتهم فيها.
لكن لا يواجه المحتجز أثناء التحقيق بتهم واضحة؛ بل يبدأ التحقيق دوما بسؤال مفتوح عن نشاطاته منذ فترات طويلة (أحيانا “من ساعة الولادة”). ويُطالَب المحتجز بسرد كافة التفاصيل عن حياته الشخصية، ومجال دراسته أو عمله وسبب اختياره له، وأفراد أسرته الممتدة وبيانات حول وظائفهم وعلاقاتهم الاجتماعية ومحال سكنهم. كما ورد بالكثير من الشهادات قيام المحققين بالسؤال بشكل خاص عن نشاط المحتجز أثناء أحداث ثورة 25 يناير والعلاقات التي تربطه بالنشطاء والرموز السياسيين أو الإعلاميين الذين كان لهم نشاط بارز سواء كان نطاقه وطنيا أو محليا. كما تتضمن التحقيقات بشكل أساسي أيضا سؤال المحتجزين عن علاقتهم بجماعة الإخوان المسلمين أو حزبها السياسي تحديدا، سواء كانت تربطهم بالفعل علاقات شخصية أو علاقات عمل بأعضاء بها أم لا.
“انا دخلت التحقيق وخرجت. بعد ما خرجت اكتشفت أن انا معرفتش أنا ممسوك ليه. يعني بعد ما خرجت من التحقيق أنا نسيت أسأله. كانت حاجة نفسي أعرف هو انا ممسوك ليه.” (شهادة 3)
وكثيرا ما يتخلل التحقيق تهديدات أو تعبيرات توحي بالإدانة أو افتراض الضابط ارتكاب المحتجز جرما يستحق وجوده في مقر الأمن الوطني – أي أن تواجد المحتجز في مقر الأمن الوطني يعتبر في خطاب الضباط دليل إدانة بذاته يجب أن تعضده التحقيقات. كما أفاد أكثر من محتجز بأن كلام الضباط والأمناء يوحي بتحيزات مسبقة لديهم تجاه المحتجزين، مثل كونهم “أعداءً للوطن” أو إرهابيين على سبيل المثال، رغم أن المحتجزين يكونون إما قد أنهوا الأحكام القضائية المفروضة عليهم أو حصلوا على قرار بإخلاء السبيل من جهة قضائية، أو لم تصدر أي جهة قضائية أي قرار إدانة بحقهم أصلا. وانعكس ذلك في رواية بعض المحتجزين السابقين لوقائع التحقيقات، حيث أخبرهم الضباط بأن “اللي بييجي هنا اللي بيهدد الأمن القومي”، وسؤل البعض الآخر مباشرة حول طبيعة “تصنيفه” الإجرامي: أي عما إذا كان عضوا في جماعات سياسية أو دينية عنيفة أو غير عنيفة بعينها أم كان من “الملحدين والكفار”. وأحيانا يتضمن التحقيق ضغطا صريحا ليعترف على نفسه المحتجز بتهم كبيرة متعلقة بالعنف أو التهديد المباشر للأمن القومي، وإيهام المحتجز بأن لدى الأمن الوطني أدلة تدين الشخص أو أحد أفراد أسرته.
تتفاوت المعاملة أثناء التحقيق على حسب الضابط الذي يجري التحقيق، وحسب التصنيف الذي يعطيه للمحتجز الموجود أمامه. ويمارس الضباط أثناء التحقيقات عددا من الألاعيب؛ كاتهام المحتجز بالكذب، أو التلاعب بأجهزته الإلكترونية وزرع أدلة عليها ثم مواجهته بها على أنها أدلة قديمة – كما أن زرع الأدلة بالأحراز قد يحدث أثناء القبض أي قبل التحقيق. كما يتخلل التحقيق اعتداءات بدنية مهينة كالضرب بالأيدي والأحذية، وكذلك تهديد بالصعق بالكهرباء عن طريق إلصاق الصاعق الكهربائي أو أدوات تشبهه بجسد المحتجز لإيهامه بأنه على وشك التعرض للصعق. كما أن أسلوب خطاب المحققين يتعمد إذلال وتعنيف المحتجزين في أغلب الأحيان.
في إطار التحقيق، يجبر المحتجز على تسليم الأرقام السرية لأجهزته الإلكترونية. وأحيانا يؤخذ المحتجز خارج المقر لمكان سكنه لمواجهته بالأدلة وللبحث عن أحراز، وأحيانا يأتي الضباط بخبراء للمشاركة في التحقيق إن كانت التهمة تتضمن مسائل تقنية. كما تجري التحقيقات بالتنسيق مع جهات أخرى خارج الجهاز يتواصل معها الضباط أثناء التحقيق عبر الهاتف، قد تكون تابعة لجهاز الأمن الوطني في محافظات أخرى.
في حال خلت التحقيقات من التعذيب الجسدي المباشر، فإنها تعتبر الفرصة الوحيدة أمام المحتجزين للحصول على معلومات أو تقديم طلباتهم للضباط – سواء كانت مطالبات بتبليغ أهاليهم بمكان تواجدهم أو بالحصول على أدوية أو غير ذلك. وقد يستغل الضباط ذلك بإيهام المحتجزين بأنهم سيخرجون قريبا من المقر (خاصة إن كانوا قد قضوا فترة اختفاء طويلة داخله)، أو بأن الضباط سيقومون بتبليغ أهاليهم بمكان تواجدهم، دون أن يقوموا بفعل ذلك في الحقيقة. وأحيانا يصرح الضباط برغبتهم في “تعاون” المحتجز معهم بعد خروجه.
التعذيب
بينما أفاد أغلب من تحدثت إليهم الجبهة بأنهم لم يتعرضوا بشكل مباشر لتعذيب شديد كالصعق بالكهرباء أو الضرب المبرح، إلا أن ما ذكروا من مشاهداتهم داخل المقر يفيد بأن التعذيب شائع، وأن بعض المنتمين لتيارات بعينها (أو حتى من يرجح انتماؤهم إليها استنادا لمظهرهم الخارجي) يكون التعامل معهم عن طريق التعذيب هو الأساس. ويستخدم التعذيب كأداة أساسية في التحقيق ولا يكون في العموم مطلوبا لذاته خارج إطار أهداف التحقيق، وكان من بين حالات التعذيب محتجز تعرض للتعذيب لإجباره على الإدلاء بتهم تدين شخص آخر لا يعرفه وقد أدلى بها فعلا.
بلغ عدد وقائع التعذيب التي رصدتها الجبهة بشكل مباشر (من شهادات المحتجزين عن تجاربهم الشخصية أو الأقوال أمام النيابة) 6 وقائع، ووثقت الجبهة وقائع إضافية من خلال مشاهدات المحتجزين.
“واحنا نايمين في أمان الله سمعنا صوت صريخ وعياط وكدا. فهم كانوا منزلين الحجز كان واحد واضح أنه لسه مقبوض عليه قريب ولسه متعذب فريش [حالا] يعني. أنا صاحي من النوم على صوات بني آدم بيستغيث يعني كان حاله صعب صعب صعب. كان بيطلب الرحمة. هو كان في حالة غريبة كان بيقول عايز آكل عايز أشرب الحقوني عايز أدخل الحمام أرجوكم. بشكل هستيري يعني بشكل هستيري. حرام عليكم فكولي الكلابش. … كانت ايده وارمة الكلابش برده كان قافل على إيده…. في أحد الاستغاثات كان بيقول له – يعني كان بيناشد الإنسانية جوا أمين الشرطة – كان بيقول له ’كهربوني. كهربوني عايز أشرب‘. [أمين الشرطة] يقول له احنا معندناش كهرباء، الكهرباء قاطعة عندنا الكهرباء مابتجيش هنا…. طبعا قعد في مرحلة الصريخ بتاعته دي طولت شوية فضلت مكملة لغاية تاني يوم.” (شهادة 3)
وحسب إفادة المحتجز السابق، فقد تعرض ذلك المحتجز للصعق بالكهرباء في أعضائه التناسلية؛ وقد علم صاحب الشهادة ذلك لأنه سمع المحتجز الذي تعرض للتعذيب يطلب من التمرجي دهن علاج للحروق على عضوه الذكري.
وقد تنامى لعلم المحتجزين السابقين الذين وثقت معهم الجبهة معلومات حول وقائع تعذيب إضافية بمقر الشيخ زايد بشكل غير مباشر عن طريق زملائهم في السجون التي ينتقلون إليها بعد فترة الإخفاء القسري. فأفاد أحد الشهود بأنه بعد انتقاله للسجن قابل عددا من المسجونين الذين أخبروه بتعرضهم للتعذيب بمقر الشيخ زايد، وكانوا نتيجة التعذيب أصيبوا بعاهات مستديمة، فأحدهم صار محتاجا لكرسي متحرك للحركة في السجن؛ وآخر كان يحتاج المساعدة للدخول للحمام بسبب وجود رعاش بساقيه نتيجة التعذيب وعدم قدرته على الوقوف. وبالشكل ذاته، نمى إلى علم أحد الشهود عن طريق زميل له في السجن كان محتجزا بمقر الشيخ زايد ما بين عام 2018 و2021، أنه كان قد تفشى مرض جلدي بالحجز؛ كما وقعت حالة تسمم بسبب سوء جودة الطعام؛ وكان بعض المحتجزين قد دخلوا على إثر تلك الوقائع في إضراب عن الطعام. وقابلت الإدارة ذلك بأخذ مجموعة من المضربين وتعذيبهم جماعيا في الممر أمام باقي المحتجزين – ما شمل تعريتهم وضربهم وصعقهم بالكهرباء. وقد قدم أحد المحتجزين السابقين تفاصيل الآثار الصحية التي عانى منها بسبب التعذيب في أقواله أمام النيابة:
“وفى وسط التعذيب وقعت على رأسى وانا اصلا كان عندى مشكله فى عينى الشمال من صغرى وبسببها اخدت إعفاء وكنت عامل عمليه فيها لان كان عندى انفصال فى الشبكيه ولما وقعت ونزلونى لقيت عينى مش بشوف بيها وتطور الأمر أنى بقيت بجيب دم منها لحد ما الظابط جاب دكتور مكشفش عليا وادانى قطره لكن انا حالتى تدهورت لدرجه ان الوقعه أثرت على أيدى ورجلى ومبقيتش بعرف احركهم وفى الوقت ده قرر الظابط أنه ينقلنى مكان تانى وفعلا رحت مكان تانى.” (شهادة 9)
وبالإضافة للضرب المبرح والصعق بالكهرباء، قد يأخذ التعذيب أشكالا أخرى، مثل “التعليق لأكثر من ثلاث أيام، والحرق بإطفاء السجائر بجسد [المحتجز]، وتشريح معصم يديه لشدة الصعق، والضرب وتهديده بالقتل والرمي بالصحراء وإيذاء وتعذيب زوجته وطفله الرضيعة ووالديه المسنين إذا لم يعترف بالتهم المنسوبة إليه.” وتتكرر الأنباء عن أشكال التعذيب هذه، بما في ذلك التهديدات بإيذاء أفراد أسرة المحتجز، ما يشير لأنها ليست حوادث منفردة.
وقد يكون التعذيب بالأساس نفسيا بأن يتعمد ضباط التحقيق إسماع المحتجز أصوات تعذيب محتجزين آخرين، وكان من بين تلك الحالات محتجزة سابقة قالت للجبهة بأنها أثناء التحقيق معها كانت تسمع صوت زوجها في غرفة قريبة وهو يتعرض للتعذيب. وحسب شهادة محتجز سابق آخر، فإن وقوع حوادث التعذيب على مقربة منه عاد بآثار سلبية على حالته النفسية، وأثر على بعض سلوكياته. وأفاد محتجز سابق، بأنه بالإضافة للتعذيب البدني، كان يتعرض لتعذيب نفسي شمل التهديد باغتصاب نساء مقربات له.
النساء
رصدت الجبهة أنماطا من العنف الجندري الذي يمارس على النساء في التحقيقات، خاصة وأن المحتجزات بالمقر لا يتعاملن مع أي موظفات من النساء سواء كن مدنيات أو تابعات لجهاز الأمن الوطني، وتشمل تلك الأنماط الاعتداءات اللفظية والتهديدات التي تحتوي على إيحاءات جنسية، كما تشمل أيضا التهديد بأفراد الأسرة في حال القبض عليهم برفقة المحتجزة.
فقد أفادت المحتجزة السابقة بأن وجود طفلها الرضيع معها لم يشفع لها لدى الضباط والأمناء لتتحسن معاملتهم، بل كان رضيعها مرافقا معها أثناء جولات متكررة من التحقيقات تخللتها تهديدات وتعذيب نفسي بإجبار المحتجزة على الاستماع لأصوات تعذيب زوجها بغرفة مجاورة. وكان تكرر التحقيقات عاملا إضافيا للتعذيب النفسي، حيث كانت تتضطر في كل مرة لحمل رضيعها وهي مغماة وصعود السلالم للطابق الذي يجري فيه التحقيق وهي تتعرض للجر من قبل الأمناء. كما أنها كانت تعنّف أثناء التحقيق في حال بدأ رضيعها بالبكاء، وقالت بأنها في إحدى جولات التحقيق اضطرت لإرضاع طفلها بغرفة التحقيق وهي مغماة، دون أن تتمكن من التأكد مما إذا كان المحققون وأفراد الشرطة قد خرجوا تماما من الغرفة أم لا.
رابعا: نمط المعاملة
لا يتم التعامل مع المحتجزين داخل المقر بأسمائهم، بل يسلمون “أرقاما” يتعامل معهم الجهاز من خلالها ويؤمرون بـ”نسيان أسمائهم”، لدرجة أن الأمناء قد يتعمدون مناداة المحتجز باسمه كنوع من الاختبار ثم يعاقبونه في حال تجاوب معهم بدلا من انتظار مناداته برقمه. وتسلم الأرقام للمحتجزين بشكل تسلسلي. وبناء على ذلك، أفاد أحد المحتجزين السابقين بأن عدد المحتجزين تراوح في الفترة التي قضاها بين 50 و90 محتجزا، لأنه سمع الأمناء ينادون لمحتجزين يحملون الرقم 90. وبطبيعة الحال يتغير عدد المحتجزين من فترة لأخرى، وبشكل دوري يتم تغيير الرقم المخصص لكل محتجز، غالبا عند حدوث جرد جديد لعدد المحتجزين المتواجدين.
وفي المقابل، لا يتخاطب الضباط وأمناء الشرطة بأسمائهم أمام المحتجزين، فكل أمناء الشرطة يتعاملون مع بعضهم البعض باسم واحد حتى لا تُكشف هوياتهم للمحتجزين. أما الضباط، فأفاد أحد الشهود بأنهم كانوا يخاطبون بعضهم البعض ويخاطبهم العساكر باسم “خالد بيه”.
تتراوح المعاملة داخل المقر من فترة لأخرى، ويقصد بذلك أن حدة الانتهاكات وعمومها لتشمل جميع المحتجزين تختلف تتفاوت، حيث يبقى الانتهاك هو الأصل في المعاملة، خاصة وأن المحتجزين يكونون ابتداء مقيدين ومغمين طوال الأربع وعشرين ساعة. بشكل أساسي يعتمد الأمناء أسلوب التعنيف في مخاطبة المحتجزين، ويبدأ ذلك من لحظة التوقيف، حيث أفاد أكثر من محتجز أنهم تعرضوا لإهانات تستهدف هيئتهم كطول الشعر أو ما يرتدونه من “أكسسوارات”. وقد تأخذ شكل إيقاظ المحتجز بشكل مهين، أو توقيع عقوبة جسدية على مخالفة التعليمات بعدم الكلام أو الحركة، فقد يعاقب المحتجز إذا تحدث مع غيره أو حاول إنزال الغمامة من على عينيه. ويأخذ العقاب أكثر من شكل، حيث ذكر محتجز سابق بأن البعض يتعرض لتقييد ذراعيه في حديدة مرتفعة بالممر الذي تقع به غرف الحجز، ليبقى واقفا بتلك الوضعية لفترة طويلة. كما روى محتجز سابق آخر أنه سمع في غرفة مجاورة قيام أحد الأمناء بشتم ولكم وجه محتجز لأنه خلع الغمامة من على عينه عند استيقاظه.
وكما سبقت الإشارة إلى ما يتخلل التحقيقات من إيحاء الضباط بقدرتهم على إلحاق أي أذى بالمحتجز وخضوعه التام لسلطتهم، فإن الأمر ذاته يسري على أمناء الشرطة القائمين على حراسة المحتجزين، حيث يتعمدون التفاخر بكونهم فوق القانون وامتلاكهم سلطة مطلقة لفعل ما يشاؤون بالمحتجزين دون تقيد بالقانون. لكن تتفاوت المعاملة أيضا من شخص لآخر حسب شخصية الأمين و”مزاجه”، وفي النهاية تظل سلطة الأمناء محصورة في نطاق ما يأمر به الضابط المسؤول عن ملف المحتجز:
“أمناء الشرطة لهم ليميت [حدود]. والضباط لهم ليميت [حدود]. انت على ذمة ضابط هو اللي يقول انت تتعلقي تتكلبشي خلفي، أمامي، تقعدي، تعملي. فهو مينفعش … ضابط معين غيره يقول انه الشخص دا يتكلبش خلفي أو أمين الشرطة يعمل كدا… هم ثقافتهم ان في واحد بيشد وواحد بيرخي لعبة الشرير والطيب. عشان [كمحتجزة] ماتبقيش أجريسيف [عدوانية] معهم. ماتكونيش طيبة فالموضوع يبقى هرجلة ولا تكوني شريرة طول الوقت عشان مايطلعش غضب الناس.” (شهادة 1)
كان في واحد سادي فيهم كان مشهور بالجملة بتاعة وشك للجدار. كان أول ما بيدخل بيقول وشك للجدار وشك للجدار. كان يخش يتأكد- كان حد سادي يعني كان بيستمتع بدا يعني. وكان يطلق السباب والتهديدات يعني على مفيش… وكان عالفاضية والمليانة بيهدد في الناس ويشتمهم بدون أي داعي بيستعرض يعني قدرته على الفتك بهم بدون أي داعي… فكان طول الوقت بيردد الجملة بتاعة بحر الأذى واسع. أنا مش هاغلب معكم بس اسمعوا يعني الكلام عشان بحر الأذى واسع وأنا أقدر أعمل فيكم أي حاجة يعني… هو مكانش عنده تعليمات بأنه يعمل حاجة. في النهاية مكانش عنده تعليمات بأنه مسموح له أنه يعذب الناس أو يضربهم. لكن هو الحالة دي كانت عاجباه. فكرة أن أنا قادر أهدد بني آدمين وأن أنا احسسهم أن انا عندي سلطة عليهم وأن أنا أعمل … وأن أنا أزعق فيهم دي كانت عاجباه لكن هو مكانش عنده تعليمات بأن هو يعتدي على حد في الحجز على ما أعتقد يعني.” (شهادة 3)
يبقى المحتجزون أيضا عرضة للتحرش الجنسي (اللفظي والجسدي) من قبل أمناء الشرطة القائمين على حراستهم، وذلك حسب شهادة محتجزَين سابقين على الأقل. فأفاد أحدهم بأن أحد أمناء الشرطة قام بالإمساك بعضوه الذكري وصاحب ذلك تعليق يستهدف إهانة المحتجز. وأفاد آخر بأن التحرش وإن لم يكن دوما مباشرا وفجا لتلك الدرجة، فإنه يتكرر بأشكال أخرى، خاصة أثناء التفتيش.
“[أمين الشرطة] شايف ان جسمك مباح. أنت 24 ساعة بتتفتشي بالشكل دا. مش تعرية. بيحسس عالهدوم أو التعرية. محصلش تفتيش بالإصبع. تعليقات لفظية ساعات وساعات. … الموضوع مهين وفي نفس الوقت اللي انت بتعمله دا اسمه تحرش. غير انه ساعات في أمناء شرطة باحس انهم بيحسسوا بجد. في أمناء شرطة مثلا كان يلمس وراء. الموضوع بيبان أكتر في نظراتهم وضحكة كدا.” (شهادة 1)
وبينما تؤدي السلطة المطلقة للضباط إلى مضاعفة الانتهاكات في حال تمت “التوصية” على محتجز معين، إلا أن ذلك من ناحية أخرى قد يحمي المحتجزين من الانتهاكات على يد الحراس. ففي حال دخل المحتجز في مشادة مع الحراس مثلا، قد يتم استهدافه بالمنع من الحمام أو تغيير الكلابش من الأمام إلى الخلف والتعليق. وبسبب سلطة الضابط الحصرية على المحتجز، ففي تلك الحالات يكون بإمكان بعض المحتجزين التهديد بتبليغ الضباط بذلك، وعادة ما يتراجع الأمناء لعلمهم بأن ليس لهم سلطة على المحتجزين. لكن في المقابل، لا يتاح للمحتجزين مخاطبة الضباط إلا أثناء التحقيقات، حيث لا ينزل الضباط إلى منطقة الحجز سوى نادرا لتفقد “النظام” – والذي يعني في الغالب التأكد من أن كل المحتجزين ملتزمين بالبقاء في أماكنهم دون كلام ودون نزع للغمامات أو الكلابشات.
أفاد الكثير من الشهود بأن المحتجزين يكونون متخوفين من بعضهم البعض؛ وأنه في بعض الأحيان يكون ذلك بإيعاز من الضباط والأمناء، حيث يوهمون المحتجز بأنهم أسكنوا الآخرين خصيصا ليراقبوا المحتجز في حال قام بفعل شيء ممنوع، وذلك للحيلولة دون تحدث المحتجزين مع بعضهم البعض.
خامسا: سلطة الأمن الوطني وعلاقته بمؤسسات أخرى (ما يظهر من خلال السلوك والحديث)
حاولت الجبهة من خلال المقابلات التي أجرتها رسم صورة عن سلطة الجهاز الأمن الوطني في إطار المنظومة القضائية والعقابية، وذلك بسؤال المحتجزين عن أي إشارات وردت في خطاب الضباط أو الأمناء توحي بعلاقة خاصة تربطهم بمؤسسات الدولة الأخرى أو سلطة الجهاز.
وقد تمكنت الجبهة من جمع بعض القرائن التي تُشير لعلاقة ضبابية بالمؤسسات الأخرى ووقوع استثناءات أو تعليق للإجراءات القانونية الاعتيادية عندما يتدخل الأمن الوطني في عملية الاحتجاز والتحقيق. ويبدأ الأمر من علم الجهاز بكونه يعمل موازيا للعملية القضائية الرسمية. ينعكس ذلك بشكل أساسي في “طقوس” عرض المحتجز على النيابة. فمحاضر تحريات الأمن الوطني تزوّر تاريخ القبض ليكون بتاريخ آخر يوم للمحتجز داخل مقر الأمن الوطني قبل عرضه على النيابة، وبالتالي يتعامل وكأنه غير مسؤول عما لحق بالمحتجز خلال فترة اختفائه داخل المقر، على الرغم من أن المحتجزين يكونون مغمين لحين وصول سيارات الترحيل إلى بوابة مبنى النيابة. كما ينعكس أيضا في تعليقات الضباط أثناء التحقيقات، التي تتضمن أحيانا تهديدات للمحتجز حتى لا يصرح أمام النيابة بكونه قد اختفى داخل المقر، وكذلك حتى لا يغير أقواله.
“قال لي بس لما تطلع هاتقول ايه للناس انت كنت فين؟ قلتله مش هاقول لهم حاجة. قال لي قل لهم انت كنت في [مدينة بمحافظة أخرى].” (شهادة 1)
في بعض الأحيان، تتخلل التحقيقات تلميحات من ضباط الأمن الوطني توحي بعلمهم بعدم ضلوع الشخص في أي جرائم، إلا أن إخفاءه والتحقيق معه يجري وفقا لأوامر من جهات عليا. وأحيانا يكون إخفاء الشخص داخل مقر الشيخ زايد نوعا من “التخزين” بطلب من مقرات مجاورة هي من تضبط الشخص وتحقق معه، ثم ترسله إلى مقر الشيخ زايد.
ويستمر ارتباط ملف المحتجز بالأمن الوطني حتى خارج حالات التدوير، فأفاد أحد الشهود بأنه بعد قرار إخلاء سبيله بقي بالقسم وأُخبر بأن سبب تأخر خروجه هو تأخر الاتصال من الأمن الوطني الذي يقرر ما سيُفعل به – سواء كان سيُسمح بخروجه (وهو ما يسمى بـ”التأشيرة”)، أو يؤمر بترحيله إلى المقر ثانية إما للتحقيق والتدوير، أو يتم اقتياده لإجراء تحقيق نهائي قبل أن يخرج نهائيا من المقر وليس من قسم الشرطة.
وجمعت الجبهة قرائن أخرى من شهادات من تعرضوا للتدوير، تفيد بأن احتجازهم استمر بعد إخلاء سبيلهم بمقرات احتجاز أخرى بإيعاز من الأمن الوطني، سواء داخل أقسام الشرطة أو داخل سجون سيئة السمعة مثل سجن العقرب. وقد يتم ترحيل المحتجز إلى المقر لإجراء تحقيق مرة أو أكثر ثم يعاد لقسم الشرطة أو مقر الاحتجاز الموجود به، وكثيرا ما يكون في تلك الفترة مختفيا فيما يسمى بـ”الثلاجة” داخل القسم. وتتراوح الفترات التي يقضيها المحتجز في “الثلاجة” بين أيام وبضعة أسابيع، حسب من وثقت معهم الجبهة.
وتتورط أقسام الشرطة بأشكال أخرى في عمليات تدوير المحتجزين وإخفائهم قسريا داخل مقر الأمن الوطني بالشيخ زايد؛ ومن أبرز أشكال ذلك قيام أشخاص بزي مدني بالخروج بصحبة المحتجز بعد انتهاء إجراءات الإفراج عنه، ليقوموا خارج المبنى بتغميته وتقييد يديه واصطحابه لمقر الجهاز. وفي إحدى حالات التدوير التي وثقتها الجبهة، أفاد المحتجز بأن تلك الأوامر صحبها تهديد.